"الطارفة".. مدرسة من خمس قاعات لتسعة صفوف بعضها بشُعب متعددة

> "الأيام" / تقرير خاص:

>
  • من مدرسة فصولها الأشجار إلى أشهر الجامعات العربية.. قصص نجاح منسية
أخيرًا وبعد عقود من الحرمان والتهميش والتدمير الممنهج، تدخّلت منظمة اليونيسيف لتغيث واحدة من أقدم وأهم مدارس التعليم الأساسي على مستوى محافظة أبين، وتعيد الأمل إلى مرفق تعليمي تخرّج منه مئات الكوادر في مختلف التخصصات، فأوشك أن يصير أطلالًا لصرح لم يبقَ منه إلا سيرة عطرة لمعلمين منهم من غادر الحياة، وبعضهم ودّع سلك التربية والتعليم بالتقاعد، وآخرين ما زالوا يؤدون رسالتهم بعناء ومشقة، أجبرتهم أخلاقهم الوظيفية ومبادئهم على تحملها.. صرحٌ يكاد ألا يبقى منه سوى تاريخًا يُشاهد في قدرات أولئك المتخرجين، الذين انخرطوا في وظائفَ حكوميةٍ مدنية وعسكرية وأخرى خاصة.
اليونيسيف تغيثها بعد عقود من النسيان والتدمير
اليونيسيف تغيثها بعد عقود من النسيان والتدمير

يحتوي مبنى المدرسة حاليًا على خمس غرف، لتسعة صفوف دراسية من الأول حتى التاسع، بعضها يتفرع إلى شعبتين، لا سيما الصفين الأول والثاني، اللذان يشهدان كل عام ازديادًا في عدد الطلاب؛ ما يعني أن هناك ستة صفوف على الأقل تتلقى الحصص الدراسية خارج الفصول، أي تحت الأشجار وفي العراء، لتلفح الشمسُ وجوه الطلاب والمعلمين صيفًا، ويضرب أجسادهم البرد شتاءً. الخمسة الفصول خالية من الكراسي، أبوابها أكل عليها الزمن وشرب؛ فانتهت واندثرت، نوافذها مكسرة، لا شيء فيها سوى سقوف بعضها شبه متهالكة، تحمي من بداخلها من حرارة الشمس والأمطار.. وعلى هذا الحال سنوات بعد سنوات، وحكومة بعد حكومة، ونظام بعد نظام، لتزداد المعاناة كل عام ومعها يزداد إصرار إدارة المدرسة وطاقم التدريس والأهالي على استمرار العملية التعليمية دون فقدان الأمل في السعي والمتابعة لدى الجهات الحكومية في المديرية والمحافظة، عشمًا في لفتة أو دعم يغيّر من هذا الواقع الذي يصفه مدير المدرسة بأنه "وضع مؤلم وحال قد يضرب جودة التعليم ونوعية المخرجات في مقتل".
المدير: لفتة اليونيسيف فاتحة خير وأمل لإنقاذ طلابنا من حر وبرد العراء
المدير: لفتة اليونيسيف فاتحة خير وأمل لإنقاذ طلابنا من حر وبرد العراء

*واقع مؤلم
هدار حسين
هدار حسين
مدير المدرسة، الأستاذ هدار حسين عبد الرب، يقول في حديث لـ "الأيام" "لا أقول إن واقع التعليم في مدرستنا هذه مؤلم، فالعملية التعليمية تُؤدَى على أكمل وجه، ولدينا معلمون ملتزمون بواجباتهم الوظيفية، المؤلم هو وضع أبنائنا الطلاب الذين يفترشون الأرض، ويتلقّون دروسهم وسط الريح والشمس، المؤلم هو حال المعلم الذي يبذل كل ما في وسعه لأداء رسالته بمهنية، في وضع لا يساعد على العمل بمهنية".

ويضيف "سنوات ولم نفقد الأمل بالمتابعة لدى الجهات المختصة والمنظمات والداعمين، حتى تكللت الجهود هذا العام بأن حصلنا على لفتة إنسانية من منظمة اليونيسيف التي دعمتنا بـ75 كرسيًا وتعهدت بـ 120 كرسيًا و4 سبورات وصندوق، سنستلمها خلال أيام.. نحن نعتبر هذا الدعم إغاثة عاجلة لصرح تعليمي منكوب، وعمل إنساني بحت من شأنه أن يحد من معاناة الطلاب والمعلمين، كما أننا ننظر إلى هذه الخطوة أنها فاتحة خير بدأتها اليونيسيف، لتلمس واقع المدرسة وطلابها ومعلميها عن قرب، والتعرف على احتياجات العملية التعليمية في هذه المدرسة التي ظلت عقودًا بعيدة عن أعين المنظمات واهتمام الداعمين".

وتابع قائلًا "كل الشكر والتقدير لمدير منظمة اليونيسيف، ولمديرة البرامج بالمنظمة الأخت جيهان باوزير اللذين كان لهما الفضل في كسر حاجز التهميش والخذلان الذي عانته مدرستنا منذ تأسيسها، فكانا، فعلًا، شمعة أمل للأهالي كافة في إيصال معاناة التعليم إلى مراكز صنع القرار، سواء في المنظمات الدولية أم الداعمين المحليين أو الجهات الحكومية.. وعبر هذه السطور نبلغ اليونيسيف ومديريها في عدن أن هذا الدعم حظي بارتياح ورضا شديدين من قبل الأهالي في المنطقة المستهدفة، آملين مزيدًا من النزول الميداني إلى المنطقة ومعاينة مبنى المدرسة، ووضع التعليم للخروج بقناعة عن أحقية الدعم والاهتمام".

وبحسب السجلات الرسمية والإحصاءات فإن عدد الطلاب يفوق الثلاث مائة وخمسين دارسًا، منهم نحو مائة وخمسون فتاة، وتؤكد إدارة المدرسة أن كثيرًا من الفتيات يتسربن من التعليم ويغادرن المدرسة، بسبب عدم وجود صفوف دراسية وكراسي، لاسيما طالبات الصفوف السابع والثامن والتاسع.

*بركات الوحدة
تأسست المدرسة في مطلع السبعينيات بستة فصول دراسية، وحظيت من حكومة ما قبل الوحدة بدعم واهتمام فيما يخص التأثيث والوسائل التعليمية وتأهيل المعلم، دون العمل على بناء فصول إضافية نظرًا للاكتفاء في تلك المرحلة، وبعد الوحدة بين دولتي الجنوب والشمال في العام 1990 حصلت المدرسة على اعتماد حكومي لترميم المبنى وتوسيعه، فعملت الجهة المنفذة حينها على هدم فصلين أحدهما كان في الطابق الثاني، مقابل بناء فصل واحد وترميم بعض الأسقف، ليتراجع عدد الفصول الدراسية (قاعات الدراسة والإدارة) من ستة إلى خمسة فصول، لمراحل تعليمية من الأول حتى السادس ابتدائي، غير أن التوسع السكاني في المنطقة، وازدياد أعداد الطلاب، وبُعد المدارس الأخرى كان يجبر الإدارات المدرسية المتعاقبة على إضافة مراحل جديدة في الفصول الخمسة نفسها، إما بالعمل على فترتين أو بتعليم بعض الصفوف تحت الأشجار خارج مبنى المدرسة، وهكذا حتى افتتحت المدرسة الصف التاسع قبل أربعة أعوام، ليبقى أربعة صفوف، والشُعب الإضافية تتلقى التعليم في العراء، وتحت الأشجار، وباتت المدرسة في أمس الحاجة إلى بناء فصول إضافية وإدارة مدرسية ومكتبة.

*علي وعلي
علي محسن
علي محسن
"علي محسن".. لا تكاد تُذكر مدرسة الطارفة إلا ويذكر معها هذا الاسم كثنائي وكمتلازمتين ارتبطت كل منهما بالأخرى ارتباطًا وثيقًا، متلازمة تخفي وراءها تاريخًا ناصعًا وسيلًا من الذكريات في مخيلة كل من تتلمذ في تلك المدرسة أو عاصر وعايش تلك الأجيال، طلابًا ومعلمين، منذ مطلع السبعينيات حتى اليوم.. المرحوم علي محسن معلم فذ وتربوي قدير من خارج منطقة المشوشي أقام في المدرسة، مديرًا لها، أكثر من سبعة عشر عامًا، عمل بتفانٍ، وعُرف بالأمانة والإخلاص في أداء واجبه، واجتهد في خدمة المدرسة ومتابعة احتياجاتها وحل مشاكلها مع الأهالي، تفنن وأتقن التعامل مع مجلس الآباء، وجعل من الأهالي عامل نجاح وداعمًا قويًا للعملية التعليمية، حتى صار واحدًا من أبناء المنطقة، حرصًا على مستقبل الطلاب ومكانة المدرسة. يقول معلمون وأطباء ومهندسون ممن تتلمذوا على يديه أو درسوا في عهده إن هيبة المعلم التي زرعها علي محسن ومعلمو المدرسة، في تلك المرحلة، لا تزال ترسم في مخيلاتهم رعبًا وخوفًا وإجلالًا لمعلم وتعليم تلك الحقبة، ويؤكدون أن صوته في الطابور الصباحي لا يزال يطرب الآذان شوقًا وحنينًا لذلك الزمن الجميل الذي ولى دون رجعه.

علي زيد
علي زيد
وإذا كان المرحوم علي محسن نموذجًا للمعلم في تاريخ مدرسة الطارفة فالمهندس علي زيد علي المشوشي نموذجًا للطالب المتخرج من تلك المدرسة، وعلمًا من أعلام المنطقة الذين نفضوا عنها غبار المعاناة وأبوا ألا أن يكونوا في مقدمة النخبة على مستوى المحافظة والجمهورية، ليتحصلوا على منح دراسية ويتخرجوا من أشهر الجامعات العربية، منطلقين من مدرسة اسمها "الطارفة" فصولها خمسة لا كراسي فيها ولا أبواب ولا نوافذ.

أكمل المهندس علي زيد تعليمه الأساسي في مدرسة الطارفة بتفوق، فالتحق بثانوية العُمري، ومنها تخرج بتفوق أيضًا، وحصل على منحة لدراسة الهندسة في إحدى جامعات المملكة الأردنية الهاشمية. أثمرت جهود المعلمين في مدرسة الطارفة، وأثبت هذا النموذج كفاءةً عالية، فعاد من الأردن يحمل شهادة في مجال هندسة الكمبيوتر ليحصل بعد ذلك على وظيفة حكومية محترمة، وعلى هذا النموذج يمكن القياس والتأسيس لتاريخ طويل من الكفاءات التي غدت اليوم تشغل مناصبَ هامةً في السلكين المدني والعسكري.

*خاتمة
كثيرةٌ هي النماذج التي يمكن الحديث عنها وسرد سيرها الذاتية ممن ارتبطت أسماؤهم بمدرسة الطارفة تعلما وتعليما، لكن ذلك سيظل مجرد تاريخ يهدده الوضع الذي وصلت إليه المدرسة اليوم، وحكايات سيتوقف سردها مع ازدياد وضع التعليم هناك سوءً وتدهورًا وتراجعًا؛ ما يعني أن الأمر بات يتطلّب تدخلًا عاجلًا من السلطات المحلية والمنظمات الدولية وأبناء المنطقة للتعجيل ببناء فصول دراسية، وتأثيثها والعمل على انتشال هذا الصرح ليواكب التغيرات والتوسع السكاني في المنطقة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى