​اذهبوا إلى الحرب!

> هناك من يراهن على الحرب وحدها لتغيير الواقع، وفتح الباب أمام المستقبل! ويستخف ويستسخف أي دعوة للسلام أو أي توعية بأهمية السلام، ويراها دعايةً رومانسية ساذجة و أمنيات خادعة.
وهذا المراهن على الحرب يرى كل شيءٍ ما عدا الحرب مضيعةً للوقت، وإهداراً للجهد، ولكنه لايرى أن كل ما فرضته الحروب السابقة أضاع الأرواح والوقت والجهد والمال و التنمية.

 وأهم من ذلك أن الحروب وخصوصاً الداخلية تدمر الثقة بين أبناء المجتمع الواحد، وتُلغَم المجتمع بكل عوامل الانفجار والدمار وتفخخ الذاكرة بالثأر.
وما تفعله حربٌ في شهور أو سنوات معدودة يحتاج لعقودٍ وأجيال لمعالجته ومداواته وتجاوزه نفسيا وثقافيا، هذا إنْ أمكن تجاوزه سياسيا واجتماعياً بمصالحات وطنية وتسويات وتعويضات وسن قوانين.

ومن المعلوم إن المراهنين على الحرب ليسوا كلهم دمويين أو تجار حروب؛ فهناك بسطاء لا حول لهم ولاقوة، لكنهم مهووسون بالعنف بحسب ثقافة المكان، أو مضحوك عليهم ومغرر بهم بقوة الشعارات الدينكشوتية.
 وهناك نفرٌ من المثقفين يدقون طبول الحرب، ويطلقون التصريحات النارية وينفخون أوداجهم في وجه أي دعوة سلام تحاول أن تذكِّر بالسلام وقيمته وقيمه، وتنبه إلى أن السلام ضرورة وجودية. لعلها بذلك تحيي أملاً أو تستلفت نظر أحد إلى ما يمكن إنقاذه.

ومن هؤلاء المحسوبين على الثقافة من يبخسون منطق السلام وينحازون للحرب لعدة اعتبارات ليس منها أي اعتبار  للوطن والمواطن.
وهم يتجاهلون أبسط ما تشترطه الثقافة بوصفها ضد البربرية. و يسقطون من حساباتهم أن دور المثقف ليس في أن يكون بوقاً للحرب!

 وإذا قلت لهم إن ما يمارسه الحوثي هو امتداد طبيعي لثقافة المكان التي يجب أن نعمل على تغييرها، ومحاصرتها بالوعي والصبر والثبات على خيار السلم، سخروا ورأوا في ذلك مداً لعمر الحوثي  و تبريرا لأفعال الحوثي ووحشيته وجهله المسلح.
ولايعلمون أن الحرب تمد في عمر الحوثي وفي أعمار كل الذين على شاكلته.
 
وإذا قلت لهم إن الأطراف التي تدّعي الدفاع عن الشرعية هي الوجه الآخر للحرب وللقبح والفساد والإفساد والجهل المسلح، والرعونة العصبوية رأوا في ذلك مساواة بين الضحية والجلاد!
وإذا قال قائلٌ إن الخلاص في الخلاص من الرهان على كل أطراف الحرب، والدعوة لاصطفاف مدني حول ما تبقَّى من الحلم بدولة المواطنة رأوا في ذلك عدميةً وهروباً من الواقع.

وإذا لزم أحدٌ الصمت ونأى بنفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا رأوا في ذلك جبناً يدّعي الحياد والموضوعية!

وبمقاربة ما يحدث يتبدى أن الذهنية التي تتقاتل الآن هي ذهنية واحدة.  ولعله ليس من المبالغة الإشارة إلى أن ما يجري في اليمن ليس بسبب الحوثيين؛ فالحوثيون هم أحد أبرز تجليات غياب الدولة، وربما كانوا أبرز تجليات القبح الذي ألفناه إلى أن صرنا لا ننتبه لوجوده على مدى عقود من الزمن. وربما كان دورهم في كشف عورات مجتمعنا الذي ظل لعقود من الزمن في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب، لكنهم بالتأكيد ليسوا المصدر الرئيسي والوحيد للقبح الذي نعيشه الآن.

ومثلما كان وجود الحوثيين ذروة التراجيديا الإجتماعية، ربما كان وجودهم على مسرح الشتات أبرز الأدلة على حاجتنا العاجلة والمُلحة إلى دولة المواطنة.
والبرابرة حتى وإن كانوا قبحاً خالصا، فهم قد يكونون مدخلاً للوعي الجمعي  بأهمية الدولة ، وهكذا قد يكونون حلاً من الحلول كما تقول القصيدة الشهيرة لكفافيس!

وإذا كان الحوثيون يفرضون على حياتنا ما ليس من منطق الحياة، ولا روح العصر، فإن صراع الجماعات المسلحة يزول بزوال دوافع وجوده، و مبررات استمراره، وهذا لن يكون بإشاعة ثقافة الحرب والتحريض على استمرارها و التبرير لها.
 وكلنا نعلم إن الحوثي مُنح وقتاً طويلا ليلتحم بالبندقية. ولو كانت هناك دولة حقيقية لكان هناك وعيٌ مدني فاعل يحرم كل فوضوي من وجود الحاضنة المجتمعية، ولما كانت المعركة مع سلاح الحوثي تأخذ كل هذا الوقت.  

وكلنا نعلم إن الحوثي  بغير السلاح لم يكن شيئا مذكورا، وبغير السلاح لن يبقى منه شيء، ولذلك يستقتل ويستميت في التشبث بالسلاح. ما بين الخوف من الإنتقام والرغبة في الاستئثار.  
و لا خيار لديه في تصحيح مسار السلاح و لايعرف كيف يخرج من ثنائية القاتل والمقتول.  ولذلك من الحكمة أن  نساعده على فك التحامه بالسلاح، و إعانته على إعادة الإعتبار لنفسه ولغيره ولمفهوم الوطن.

وعلينا أن نواجه أنفسنا بحقيقة أن الحوثي هو ابن مجتمعنا ولم يأتِ من خارجه، وسيظل خطره قائماً هو وأمثاله، مالم نعمل على دمجهم، و الاعتراف بهم و إعادة الاعتبار للشراكة في الوطن.

ونزع السلاح لن يكون إلا برفع الوعي القانوني بمخاطر السلاح وإشاعة ثقافة تستهجن الحرب وتدينها وتحاصرها هي وأسبابها ورموزها وتجارها وآلاتها ودعايتها.
 وهذا القول ليس من الوعظ أو التمنيات،  فهو  الحد الأدنى من ثقافة العيش المشترك، والاعتراف بالآخر، و احترام  القانون.

 وتلك ثقافة قد تبدو لا حول لها ولاقوة بين الأطراف المدججة بالسلاح، لكنها هي الثقافة الضرورية لنعيش، ولنعبر إلى المستقبل، ولننتصر على بدائيتنا ورغبة القتل الكامنة في أعماقنا. 
وهي الآلية التي من شأنها أن تضعنا في العصر، وقوتها من قوة الأمل، ومهما بدت ثقافة السلام معزولة فإنها أقوى من ثقافة الكراهية وأقل عزلة منها، و لابد لها أن تنجح في اجتذاب كل حاملي السلاح لينصرفوا عن الاتجاه الإجباري إلى الموت.

وتجربة الثورة السلمية خير دليل على أن السلاح بكل وحشيته أضعف من إرادة السلام. ولو وجد خطاب السلام منذ أول يوم لإعلان الحرب لكان على امتداد هذه السنوات قد أعاد لكثير من أهل العقول عقولهم.
 والذين  ينتظرون نهاية دامية للحوثي، يجهلون أن المصير الذي ينتظر الحوثيين ينتظرنا جميعا، مادمنا نغذي ثقافة الاستقواء والإستعلاء والإقصاء.

و مهما طالت الحرب سيستنفد الحوثي  شعاراته وزوامله وكل حيله لتبرير الحرب وستستنفد الجهة الأخرى كل وعودها وكل تفسيراتها للخنوع الذي تعيشه تحت هيمنة السعودية والإمارات، ومن هنا لابد أن يكون الخطاب البديل حاضرا وعاليا؛ ليكون الملاذ لكل من فرضت عليه الحرب أو فرضت عليه تداعياتها، ولكل من يعود إليه رشده.

وكل المراهنين على السلاح، الذين يراكمون الأحقاد والضغائن والثأرات، سيستنفدون كل جهدهم وكل غرور السلاح، كما استنفد علي عبدالله صالح استعراضاته العسكرية، وكما استنفد الإمام أحمد يا جناه جِرار القطران.
 وسيدور التاريخ وسيقول لنا: إن استنساخ الأحداث لم يكن جريرة الحوثي وحده، وما كان يمكن للحوثي أنْ يكون لولا إننا ظللنا بعيدين عن الواقع، ولم نقم بأدوارنا تجاه المجتمع حين غابت الدولة عن صعدة، ودفعت أو أتاحت للحوثي أن يراكم أسباب الحرب ويستثمر في عقيدة البارود.

 و يجب أن نتذكر أن كثيرين منذ عقود طويلة من عمر الجمهورية ظلوا يمجدون العنف وأهله، ويفخرون بانتشار السلاح  ويرونه جزءا من هوية اليمنيين!
وآخرون كانوا وما يزالون  يوظفون أقلامهم وأحزابهم لتوعّد المختلفين معهم وشيطنتهم وتحويلهم إلى خصوم وأعداء، لا يُعترفون بهم شركاء في الوطن، ولايرون لهم حقاً في الإختلاف، و هكذا ظل قرار الحرب دائما موجودا وإن ظل لحين مؤجلا، وظل مناخ الحرب قائما، و مبررات الحرب ظلت تتنامى وتستشري في النفوس.

ولو نظرنا في التاريخ القريب فسنجد أن ما يقوم به الحوثي عملياً ليس إلا امتدادا لحروب سلفت، في كل مكان من اليمن، ولا جديد في الأمر سوى تغيير المسميات، فالعنف الذي استشرى بنسخته الحوثية هو العنف الذي استشرى في حرب صيف1994م. وهو العنف الذي استهلك الآلاف من اليمنيين الأبرياء في أحداث 13يناير 1986م وما قبلها من حرب الرفاق على الرفاق وحرب السبتمبريين على السبتمبريين.
 وهو العنف الذي سميناه حروب المناطق الوسطى، وهو العنف الذي أشعل الإنقلابات والإغتيالات جنوبا وشمالا.

والسؤال الذي لم يبرح ديارنا: لماذا تتكرر دورات العنف؟!!
 هل لأننا ما نزال في الغابة؟  أم لأن جيناتنا من البارود؟
أم لأننا لم نبنِ دولة ؟!
أم لأن هناك ثقافة عدوانية وبيئة للعنف تُسهّل احتضانه وتنشيطه كلما وجد من يدفع ويموّل ويحرّض؟!

علينا أن نفكر بأسباب ثقافة العنف، وأن نعيد النظر في ممارساتنا وتصرفاتنا وخطاباتنا،  فنحن حتى في نقاشاتنا الثنائية في المقيل، وحواراتنا في المجالس وفي وسائل التواصل الإجتماعي نعيش بذهنية عنفية تنزع للإلغاء والإقصاء والتنمّر والرغبة في الانتصار والغلبة لا الفهم والانتصار لما هو أجدى وأصلح.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى