عدن.. دور العرض السينمائي أطلال تسكنها الأشباح

> عدن «الأيام» إبتسام المقطري:

>
  • انحسار دور السينما مؤشر خطير على التراجع الثقافي
ما أن كان يحل مساء ليل الخميس إلا وتعج صالات السينما بالحشود الراغبة بقطع التذاكر لدخول ومشاهدة العرض الجديد، الجميع متحمس ومتفاعل لا يأبه حتى بسعر التذكرة.

هكذا كان حال دور العرض السينمائي باليمن في أغلب محافظات الجمهورية بالسبعينيات من القرن الماضي، حيث كانت صالات العرض في حالة تسابق وتنافس مع بعضها البعض أشبه بمن يبحث عن جائزة أو في سباق، لم تكن فقط بالمدن الرئيسية، بل امتدت إلى المدن الصغيرة كالراهدة والتربة بتعز والقاعدة في إب.

خلال السنوات الذهبية في السينما المصرية (من الأربعينيات حتى الستينيات)، كانت الأفلام التي تعرض في القاهرة تعرض في عدن في نفس الوقت.

عرف الجمهور اليمني السينما مبكراً قبل جيرانه من دول الخليج، حيث كان أول عرض سينمائي بعدن في صالة هريكن، وعرفت عدن العروض السينمائية لأول مرة عام 1910 عندما كانت سلطات الاستعمار البريطاني تعرض الأفلام الصامتة باللونين الأبيض والأسود لجنودها في منطقة كريتر وللعاملين البريطانيين في السلك الدبلوماسي والمدني وأبناء عدن العاملين في المحميات البريطانية في جنوب اليمن. وبعدها بدأت الأفلام تعرض في مختلف أرجاء المدينة.

وهكذا بدأ التطور تدريجياً إلى أن وصل القمة من حيث عدد الصالات السينمائية المتزايدة والإقبال والاهتمام الجماهيري، وكذلك نوعية الأفلام التي تعرض كل تلك المتغيرات وغيرها، حيث بلغ عدد السينمات في عدن قرابة أربعين دار حسب تقرير مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية. كل هذا يشير إلى أن تلك الحقبة كانت عصر السينما اليمنية بامتياز.

انحسار تدريجي
بدا حال دور العرض السينمائي تدريجيًا بالانحسار حتى وصل إلى شبه اندثار بعد أن كانت هناك تسعة وأربعون صالة بالجمهورية، ولم تبقَ في عدن إلا صالة واحدة ومثله في صنعاء، الأمر هذا يمثل اندثاراً تاماً، حيث أصبح حالياً حالها مزرياً ويرثى له كأنها مزار للأشباح لا عروض جديدة ولا إقبال جماهيري كما بالسابق لا أحد يتحدث عن أي عروض أو أفلام، وأي حديث عن سينما كأنما يتحدث عن تراث منقرض حتى الهاوين متهمون بالانحراف ومنبوذون وصعاليك وكأنهم يبحثون ويتكلمون عن منكر وفجور.

انعدام الهم الثقافي
واحد من أبرز الأسباب التي أدت إلى ذلك هو انحسار الوجود السينمائي، هو انحسار الحس والشعور بالمسؤولية الثقافية لدى أغلب الجمهور وعدم الإحساس بأهمية وجود سينما وضعف اهتمامه بالفنون، أضف ذلك إلى التدخلات الدينية والسياسية والعادات والتقاليد المتشددة وغياب الوعي الكامل بالفن والثقافة والأدب عند الجمهور اليمني حتى لدى بعض المثقفين منه، فالحكومة جل اهتمامها باقتصاد البلد وتعتقد أن إشباع بطون المواطنين أهم من أي شيء آخر، وأن الفن والسينما مجرد كماليات ليس بحاجة ضرورية، وكأن الناس مجرد بطون تأكل فقط لا عقول تفكر أو تهتم، وهذا ما تبرمجت به عقلية اليمني، وهو الجهل عينه، فالنظرة الضيقة والمحصورة بفكر واحد لدى أفراد المجتمع اليمني ساهمت ودفعت إلى حد كبير بتقلص الاهتمام بالفن السابع وساعدت على اندثاره.

كذلك هناك القبيلة متحكمة ومسيطرة على مقاليد الحكم بأفكارها المتقوقعة بالعادات والتقاليد واستطاعت مع مرور الوقت الانتصار على قيم التمدن والثقافة التي كانت سائدة سابقاً باليمن شمالا وجنوبا.

قله الوعي
لعل أكبر أسباب مشاكل مجتمعنا الجهل وقلة الوعي بأهمية الشيء، فالجهل عدو التمدن والتحضر بالمجتمع، بل هو عدو الحضارة وهذه حالة مجتمعنا مع السينما، فعدم إدراك وانعدام الوعي بأهمية وجود سينمات بالمجتمع وإهمال دورها المجتمعي والثقافي والتوعوي، سببه الجهل الكبير بجميع أصعدته حتى أحياناً من قبل المثقفين، حيث يجهل أغلبية المجتمع اليمني الدور الكبير التي تلعبه السينما بتأثيرها على الفكر والأخلاق والاقتصاد في المجتمع سلباً وإيجاباً.

فالسينما مرآة المجتمع ولسان حاله والمجتمعات التي ينعدم فيها هذا الفن تعكس جهلها وتراجعها في الإنتاج الفكري، وإن تم حسن استغلال هذا وتوظيفه بالشكل السليم والصورة الصحيحة سيكون مردودها وفائدتها المجتمعية كبيرة، فمن خلالها يمكن معالجة العديد من القضايا والمشاكل، وكذلك بإمكان إيجاد الحلول المناسبة لها كل تلك النقاط المهمة يجهلها الساسة باليمن والمجتمع المغرر به، لأنهم غير مدركين الواقع بشكل سليم، ويرونه بنظرة ضيقة محصورة بزاوية معينة، أضف إلى ذلك ضعف حسهم بالمسؤولية الاجتماعية، وإلا لما كانوا يسمحون للفن السابع بالانحسار والاندثار بهذا الشكل بعد أن كان في القمة.

حيطان تسكنها الأشباح
صالة "هوريكين" في عدن حيطان دون سقف تعكس واقعاً فضيعاً لما وصلت له الثقافة في اليمن.

فعند مرورك بمبنى سينما "هريكن" الواقع في شارع غاندي وسط عدن يلفت نظرك هذا الصرح القديم المتهالك الذي عفى عنه الزمن يبدو لك كشبح له هيبته، لكنه رغم هذه له جاذبية عجيبة، فعلى الرغم من المكان شبه مهجور وجدرانه متهالكة، إلا أنه يظل دليلاً ومعلماً على نهضة فنية عاشها البلد على غفلة من الزمن، كذلك الحال عند مرورك بشارع علي عبد المغني في العاصمة صنعاء ترى أطلالاً لصرح شامخ للفن السابع وكأن هذه الأماكن روح واحدة، فلو عدنا للذاكرة قليلاً إلى الوراء سنتذكر كم هذا الشارع يعج بالحركة والازدحام، فمن لا يتذكر سينما بلقيس التي كانت بمثابة معلم فني ثقافي أدبياً لا يقل أهمية عن أهمية عن بقية معالم صنعاء في تلك الفترة، حيث كانت منبراً للثقافة والأدب. كم هو محزن أن يبدو الآن وكأنه أشبه ببيت مسكون للأشباح، فعند الوقوف أمام الصرح يغلبك شعور غريب كالحنين للماضي، وكأن المكان يتألم بصمت على ما وصل إليه من إهمال وتهميش، ويريد أن يهمس في آذان المارين أرجوكم أنقذونا.

لا يختلف حال السينمات في عروس البحر الأحمر عن خواتها في ما آلت إليه من إهمال وركود وإغلاق، بل طال الأمر إلى أن حولت بعضها إلى مساجد ومراكز تجارية أو أماكن لقضاء نداء الطبيعة بعد أن كانت منبراً لنقل الفن السابع بأحدث صوره. أنها حقاً جريمة شنعاء لا تغتفر، فمن منا لا يتذكر أو يسمع عن سينما الشرق أو الأندلس والشعبية و 26 سبتمبر، تلك الصالات السينمائية الضخمة التي كانت تعج بالحركة والتنافس في ما بينها لعرض أحدث وأفضل الأفلام لتستقطب الجماهير المتلهفة بشوق لكل ما هو جديد.

يخبرني محمد حسن، أحد سكان محافظة الحديدة وعشاق الفن السابع عن ذكرياته مع السينما وكيف كان يجمع بقايا مصروفه من أجل شراء تذكرة لحضور فيلم لميتاب باتشا الذي كان موعده المخصص يوم الخميس، مضيفاً أن الشوارع والجولات كانت مزدحمة، فالكل يتنافس ومتحمس للعرض الجديد رجالاً ونساءً حتى كبار السن يتركون المقاهي من أجل ذلك، ويكمل: نفتقد بشدة لذلك الجو الفني المليء بالدفء والألفة، والذي صار شيئاً من ذكريات الزمن الماضي الذي نَحن إليه.

التطرف طمس للفن
مع بداية التسعينيات من القرن الماضي بدا العد التنازلي لانحسار السينما تدريجياً مع اختلاف وتعدد المسببات وكأنها كانت بمثابة جرس إنذار لم يسمعه أحد لبداية اندثار هذا الفن تحت مسميات عديدة تارة بنشر أفكار تطرفية رجعية من قبل المتشددين على رواد السينمات وتكفيرهم ونعتهم بأقبح الصفات، وتارة أخرى بالتهميش المبطن من الجهات الرسمية الحكومية لتهمش عمل السينما بالرغم من أن العادات والتقاليد اليمنية لم تتغير ولم تمنع اليمنيين وجميع الأسر سابقاً لا بالشمال ولا الجنوب من ارتياد السينما.

وربما الظروف اختلفت قليلاً وهناك عوامل دخيلة وايدلوجيا جديدة على مجتمعنا قادت هذا التوجه ضد السينما والسينمائيين، وقد صرح الفنان اليمني يحيى إبراهيم بهذه الخصوص بأحد لقاءاته قائلاً: "إن هناك جهات وأيادي ليست بخفية على أحد لعبت دوراً رئيسياً في تشويه صورة السينما في أذهان وعقول وعيون اليمنيين من مكان راقٍ لتذوق الفن إلى مكان لا يزوره الشرفاء وتجسيد الحكايات السيئة حوله".

التغيب الحكومي
يؤكد الفنان يحيى إبراهيم أن اغتيال السينما أحد إبراز أسبابه الإهمال التام من الجهات الرسمية خصوصاً بعد دمج قطاع السينما بوزارة الثقافة، وهذه كارثة بحد ذاته، إضافة إلى أن صالات العرض سلمت إلى جهات خاصة يضعف الاستثمار فيها بعد قطع دعم الدولة، وصرفت الدولة اهتمامها ورعيتها لها وتخلت الحكومة عنها، وكذلك قلة الدعم المادي وعدم قدرة القطاع الخاص على دفع التكاليف الباهظة من المعدات والأجهزة التقنية المتطورة، وأن الدولة لا تشجع استثمار كهذا ولا ترعى أو تدعم العمل فيه، كل تلك المسببات جعلت قطاع السينما راكداً وخاملاً وبحاجة إلى إنعاش وإحياء من جديد.

وأضاف أن وزير الثقافة السابق خالد الرويشان لثورة نت، قال إن عودة السينما اليمنية بحاجة ليس فقط إلى اهتمام حكومي أو إعادة البنية التحتية، إنما إلى ثورة مجتمعية على جميع الأفكار التي تكدست داخل فكر وعقول اليمنيين.

في السياق ذاته، يرجع المخرج علي الجبوري سبب غياب السينما إلى عدم وجود أكاديميات ومعاهد متخصصة بالتدريس السينمائي بشكل احترافي على يد كوادر مؤهلة، وقلة مستوى المبتعثين إلى الخارج لدراسة تخصص كهذا، والحاجة إلى رفع وتشجيع المبتعثين لدراسة، وإيجاد فرص عمل لهم وفتح المجال للعمل بتخصصهم لتستفيد منهم البلد ومن إبداعهم بدلاً من أن يعودوا وينصدموا بالواقع المرير، ويعملوا بقطاع بعيد عن مؤهلهم التعليمي.

كذلك قلة الاستثمار في قطاع الإنتاج السينمائي وعدم تشجيع الدولة على نوع من الاستثمارات كهذا.

ولا بد على مؤسسة العامة للسينما من أن تساهم وتلعب دوراً إيجابياً وليس سلبياً نحو ذلك كما هو الوضع عليه الآن، إضافة إلى ضعف الإنتاج بهذا القطاع، فالمستثمر يبحث عن الربح بالدرجة الأولى، ويريد أن يضمن نقوده وغالباً ما يواجهه الإنتاج السينمائي حواجز وعوائق كبيرة جداً من جميع الجهات سواء من المسؤولين أو من المجتمع المعبأ بفكر العيب، أو من جانب رجال الدين المتشددين، الأمر الذي يقود إلى قلة إقبال الجمهور.

بنية تحتية
يقول محمد الرسام المتخصص في الإخراج السينمائي: إنه لن يتغير الفكر المغلوط نحو السينما إلا إذا قامت المؤسسة العامة للسينما والمسرح بتأسيس بنية تحتية سينمائية سليمة متكاملة لدور العرض في جميع الشوارع العامة والمدن الرئيسية، وحفزت الوعي بوجود هذا الدور بحدود المباح، وحسب قواعد فنية عالمية أساسية، لأن وجود سينما أصبح ضرورة ملحة وحاجة مجتمعية ملحة، فقد تغير الزمن وأصبح لكل شيء موقعه ومكانته، وهذا سوف يجعل للفكر اليمني قوة ووعي ومكانة وثقافة عالية، وسيوفر متنفساً للفنانين اليمنيين والجمهور، ويستوعب الطاقة الإبداعية لشبابية من مخرجين وفنانين ويعطي لهم فرصة كبيرة على حد سواء، ويجعل لليمن اسماً ومكانة مرموقة بين الدول، فالفن والسينما يبنيان مجتمعات راقية متطورة، وأضاف أن من الواجب علينا السعي بقوة إلى نشر ثقافة الفن والأدب بالمجتمع اليمني، ونبذ الحرب العنيفة والدمار الذي دمر بلدنا وقادنا إلى الهاوية والانهيار وأوصلنا إلى ما نحن عليه الآن.

طموحات وآمال
برغم من الواقع المزرى والإرهاب الموجه للسينما وقطاع الإنتاج السينمائي إلا أن الهمة الشبابية والإبداع متواجد وإن كان محصوراً وخجولاً، لكنه يعطي بصيص أمل ويدفع للتفاؤل باتجاه تغير الواقع المأساوي، فهناك مبدعون يمنيون مؤمنون بأهمية المجتمعية لصناعه السينما وبجهود إنتاجية ذاتية وبسيطة ومحاولات فردية أيضاً، إلا أنها بداية قوية بواقع ما نعيشه، فصناعة فلم في بلد كاليمن يرشح للإسكار ليس بالأمر البسيط أو الهين، ففيلم (ليس للجدران كرامة) الذي أنتج وصور باليمن وبظروف صعبة جداً يؤكد أن اليمنيين مبدعون إن أرادوا فعل ذلك.

خلاصة
ختاماً يجب أن ندرك أن الفكر المغلوط نحو السينما لن يتغير إلا إذا قامت المؤسسة العامة للسينما والمسرح بتأسيس بنية تحتية سينمائية سليمة متكاملة لدور العرض في جميع الشوارع العامة والمدن الرئيسية، وحفزت الوعي بوجود هذا الدور بحدود المباح حسب قواعد فنية عالمية أساسية، وذلك لأن وجود سينما أصبح ضرورة ملحة وحاجة مجتمعية ملحة، فقد تغير الزمن وأصبح لكل شيء موقعه ومكانته، وهذه سوف تجعل للفكر اليمني قوة ووعياً ومكانة وثقافة عالية، وكذلك سيوفر متنفساً للفنانين اليمنيين والجمهور، ويستوعب الطاقة الإبداعية الشبابية من مخرجين وفنانين، ويعطي لهم فرصة كبيرة على حد سواء، ويجعل لليمن اسماً ومكانة مرموقة بين الدول.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى