سلسلة كتابات في الاقتصاد النقدي: أن تأتي متأخرًا خيرًُ من ألا تأتي أبدًا

>
  • إجراءات البنك المركزي الأخيرة.... للضرورة أحكام
تابع المهتمون في الشأن الاقتصادي وعلى وجه الخصوص بالجانب النقدي منه باهتمام بالغ الصحوة المتأخرة لمجلس إدارة البنك المركزي اليمني -
عدن، حينما أقدم مؤخرًا على اتخاذ عدد من الإجراءات ذات الطابع الرقابي الإداري والنقدي، والتي تأتي من صميم وظائفه ومهامه التي نصت عليها القوانين الصادرة بهذا الشأن، وأهمها:

- قانون رقم (14) لسنة 2000 م بشأن البنك المركزي اليمني.
- قانون رقم (38) لسنة 1998م بشأن البنوك التجارية.

- قانون رقم (19) لسنة 1995م وتعديلاته بشأن أعمال الصرافة.

والإجراءات التي اتخذها البنك المركزي اليمني - عدن، وإن جاءت متأخرة، لكن كما يقول المثل الشائع " أن تأتي متأخرًا خيرًا من ألا تأتي أبدًا ". وما يشفع لها الآن، هو أنها إجراءات ضرورية جدًا، كان لابد منها لجهة استعادة البنك المركزي عدن لزمام المبادرة، التي افتقدها فيما سبق، في تأدية وظائفه كسلطة نقدية في البلاد.

وحبذا لو كانت قد جاءت ضمن حزمة متكاملة من الإجراءات المالية والنقدية مزمنة التنفيذ حسب أولوياتها وقوة تأثيرها في تصحيح الوضع النقدي - في السوق الواحدة - الذي بات معقدا للغاية.

في بادئ الأمر أود أن أنوه إلى أنه في ظل استمرار الصراع المسلح وتوسع نمط اقتصاد الحرب، فإن أي إجراءات تتخذ لن تفلح في خلق الاستقرار للوضع النقدي والمالي ولكنها حتمًا سوف تساعد في فرملة سرعة تدهوره. لهذا لا داعي لأن يقول البعض لي أنه لا حلول إلا بانتهاء الحرب. فذلك أمر الجميع متفق حوله.

على العموم عند الخوض في تناول الإجراءات الأخيرة التي اتخذها مجلس إدارة البنك المركزي اليمني وقانونيتها، يجب ألا يتلبسنا اليأس، كباحثين أكاديميين. حيث ينبغي أن يكون تقويمنا لها بعيدًا عن النظرتين التشاؤمية المحبطة من ناحية والتفاؤلية المفرطة من ناحية أخرى، التي اتشحت بهما معظم الكتابات في هذا الموضوع.

خلفية الإجراءات:
في18 سبتمبر 2016 م اتخذ رئيس الجمهورية قرارًا قضى بنقل مركز عمليات البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن العاصمة المؤقتة. بالضرورة كان يقتضي تبعا لهذا القرار نقل مركز عمليات البنوك التجارية من صنعاء إلى عدن لأسباب كثيرة، وظيفية وقانونية.
فمن المنظور الوظيفي معروف أن البنوك التجارية تتميز عن غيرها من المؤسسات المالية الوسيطة بالخصائص الوظيفية الآتية:

تتعامل البنوك التجارية بالودائع تحت الطلب (الجارية) أكثر من أي مؤسسة مالية وسيطة. وهذه الودائع تتمتع بسيولة كاملة، كونها تندرج ضمن العناصر النقدية كاملة السيولة التي تعتبر وسائل دفع مباشرة. وتشكل ما يعرف ب " عرض النقود بالتعريف الضيق (M1).
إن تلك الميزة تجعل ودائع البنوك التجارية تقوم بوظيفة وسيط للتبادل. مما يضفي على نشاط البنوك التجارية الطابع النقدي في تعاملاتها أكثر من الطابع المالي.

البنوك التجارية في سياق قيامها بوظيفتها الائتمانية (تقديم القروض) تقوم بخلق النقود أي تخلق قوة شرائية إضافية، شأنها شأن الأوراق النقدية القانونية (العملة) تسمى نقود الودائع. وهذه تدخل ضمن احتساب العرض النقدي (كمية النقود في الاقتصاد).
كل ذلك يجعل البنوك التجارية طرفا مشاركا بعد البنك المركزي في تكوين عرض النقود في الاقتصاد والتأثير على حركة اتجاهاته توسعا أو انكماشا.

من هنا تأتي أهمية وضرورة نقل مركز عمليات البنوك التجارية من صنعاء إلى عدن، بغية تمكين البنك المركزي اليمني عدن من وضع سياسة نقدية فاعلة والقيام بتنفيذها على أفضل وجه لتحقيق هدف الاستقرار النقدي.

أما من المنظور القانوني فالأسانيد والمبررات كثيرة نذكر أهمها في الجوانب الآتية:

* تلتزم كل البنوك التجارية - أينما كانت مقرات إداراتها المركزية - بتوفير كل ما يلزم من معلومات وبيانات وتقارير وميزانيات سنوية وحسابات ختامية للبنك المركزي اليمني عدن (القائم شرعيًا والمعترف به دوليًا). حيث ورد ذلك نصًا في المادة (27) من الباب الخامس في القانون رقم (38) لسنة 1998 م بشأن البنوك التجارية. وهذا الأمر لا يمكن أن تقوم به فروع البنوك التجارية وهو من صلاحيات مركز عمليات البنك التجاري ذاته.

لماذا ذلك؟
معروف لدى المهتمين بالجانب النقدي والمصرفي أن إعداد البيانات للميزانية المجمعة لكافة البنوك من صلاحيات البنك المركزي. حيث تقوم إدارة كل بنك برفع بياناتها من واقع مركز عملياتها إلى البنك المركزي الذي بدوره يعيد تجميع كل البيانات الواردة في ميزانية كل بنك إلى ميزانية مجمعة لكل البنوك بحسب الأصول والخصوم المتعارف عليها في الميزانيات العمومية للبنوك.

وحري بنا هنا التوضيح لعامة الناس من المهتمين وغير المهتمين بالاقتصاد النقدي، أن البنك المركزي لا يستطيع أن يجري مسحًا نقديًا شاملًا لكمية النقود المعروضة في الاقتصاد بدون أن تتوفر لديه بيانات الميزانية المجمعة للبنوك العاملة كافة. كون البنوك التجارية طرف أساسي مشارك في تكوين عرض النقود.

ويعتبر مؤشر عرض النقود ومكوناته من أهم المؤشرات - بل يكاد يكون أهمها على الإطلاق - في وضع السياسة النقدية السليمة والملائمة لضبط حركة وكمية النقود (توسع أو انكماش عرض النقود) بما يتوائم معدل نمو الكمية المعروضة من النقود في الاقتصاد مع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي.

* إذا ما دمجنا المبررات الوظيفية والقانونية للإجراءات المتخذة سنجد أن البنك المركزي اليمني عدن مطالب أمام المنظمات المعنية بالنظام النقدي الدولي والعربي كصندوق النقد الدولي والعربي برفع بيانات دورية عن أداء البنوك التجارية وعن أداء البنك المركزي نفسه، لاستخدامها في الإصدارات الدورية لهما حول الوضع النقدي في دول العالم والإقليم وعلى صعيد الدول العربية. بغية تحليل مكامن السلب وتقديم المساعدات الفنية والمالية للدول التي تعاني من اختلالات في الجانب المالي والنقدي .

لذلك لا مندوحة من واجب قيام كافة البنوك بموافاة البنك المركزي المعترف به أمام تلك المنظمات بكل البيانات المطلوبة، باستثناء مع ما يتعارض مع نصوص بعض مواد القوانين اليمنية النافذة، بهذا الشأن. وذلك لتوثيقها ضمن التقارير السنوية لصندوقي النقد الدولي والعربي.

* لقد أدى تصنيف اليمن كدولة عالية المخاطر إلى عجز البنوك عن إجراء معاملات مالية عادية مع بنوك أجنبية. وقد أثر ذلك على قدرتها في تمويل التجارة الدولية، والأهم استيراد السلع الأساسية.

وهكذا اضطر عدد كبير من التجار الذين يحتاجون إلى تحويل مالي دولي إلى سحب أموالهم من البنوك التي تمثل جانب الاقتصاد الرسمي واستخدام شبكات تحويل معظمها غير رسمية، بل وغير قانونية. ما أدى إلى تكدس النقد المحلي والعملات الأجنبية لديها وأضحت تتحكم بمجمل السيولة (عرض النقود) في الاقتصاد اليمني. ناهيك عن أن التعامل مع الشبكات غير المنظمة وغير المراقبة كان قد أدى إلى تمكين الأنشطة المالية المشكوك فيها إلى التوسع والاستحواذ على أنشطة تمويل التجارة الخارجية.

وهذا ما يتعارض مع السياسات الدولية التي تسعى إلى مكافحة غسل الأموال.

الأمر الذي فرض على مجلس إدارة البنك المركزي اليمني عدن اتخاذ ما يلزم في مطالبة البنوك بنقل مركز عملياتها المالية من صنعاء إلى عدن - وليس نقل إداراتها المركزية كما فهم البعض. وذلك بغية إعادة تفعيل وتنشيط وحدة المعلومات التابعة للبنك المركزي اليمني في مقره الرئيس عدن واللجنة الوطنية لمكافحة غسل الأموال من أجل استئناف أنشطة مكافحة غسل الأموال مع التأكيد على حياديتها وضرورة تبادلها للمعلومات على الصعيد العالمي والإقليمي (منظمة الفاتف) بما يلبي متطلبات القانون الدولي والاتفاقيات بهذا الشأن.

وفي سبيل التناغم فيما بين الإجراءات التي أقدم عليها مجلس إدارة البنك التزم البنك المركزي عدن بضمان نقل الأموال الأجنبية للبنوك إلى الخارج وتعهد بالقيام بذلك تسهيلا منه للبنوك التي تلتزم بنقل مركز عملياتها المالية إلى عدن.
هذا تحليل موجز للأسانيد والحجج التي تدعم الموقف السليم للبنك المركزي اليمني عدن باتخاذه للإجراءات الأخيرة - التي تأخر اتخاذها - وكان لابد منها لتمكينه من استعادة زمام المبادرة للقيام بواجبه القانوني كسلطة نقدية في البلاد .

*بروفيسور الاقتصاد النقدي بجامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى