بين المطر والسياسة

> يحكي لنا الناس في رسائل عبر "واتساب" أن كثيراً من السيول التي شهدتها الأرياف في هذه البلاد خلال الأيام الماضية ذهبت سُدى.

قبل عام 2011 عندما كان المواطن في صنعاء يخرج إلى الشارع للمطالبة بتحسين المعيشة في ذروة الصراع بين الحزب الحاكم والمعارضة، كانت السلطات تفزع أحياناً إلى الاستسقاء أو تنتظر بفارغ الصبر حلول الموسم، لأنها كانت تعتقد أن نزول المطر يؤثر في مشاعر الناس ويبعث في نفوسهم الهدوء والراحة، فيصرفهم إلى المزارع والحقول لممارسة وظيفتهم المحببة طلباً للرزق وتحسين معيشتهم، فينأون بأنفسهم بعيداً عن تظاهرات الشارع وفوضى صراعات الأحزاب، حتى أن منسوب حدّة السياسة وسخونة المشهد أيام المطر في الشمال ينخفض.

هنا في كثير من مناطق البلاد اعتاد المواطن في علاقته بالمطر على أنه رزق، وليس كما يراه البعض مجرد فرصة للنزهة والتسلية.
قد بلغ الحال بالكثير من الناس إلى أن تركوا أرضهم بوراً لا حراثة ولا عناية حتى مع وفرة المطر فصارت يباباً.

رأينا في عقود مضت قبل هذه الثلاثين السنة البائسة عندما كانت أرياف الجنوب والشمال تزدحم بساكنيها قبل أن يهاجر الكثير منهم إلى المُدن، أن المطر يأتي والريف مخضر يقطر زرعهُ وعشبهُ ندى، والرزق وافر ببركة الاجتماع، والناس لم تعبأ بأخبار الاقتصاد وأسعار العملات وخطط الحكومات.
كانت الحبوب بمختلف أنواعها طعاماً رئيسياً تجود به الأرض ناهيك عن الخضروات والفاكهة، وهناك وفرة الأعلاف وازدهار تربية الماشية، وكان الناس في أمان من الفقر والفاقة ومستوري الحال لا يشكون ولا يبكون ولا يتسولون.

وكان في ثقافة البيوت والأُسَر أن الطعام هو الذرة الحمراء "الغَرِب" والدُّخن والذرة الشامية "الهند" وغيرها من الحبوب، وكان الإدام في نظرهم هو زيت السمسم والسمن البلدي ولبن الأبقار وعسل النحل والبيض البلدي بخلاف طعام أهل المُدن الذي كان معظمه من الأرز وخبز الأفران "الروتي"، وكان الإدام من السمك والخضار أو البقوليات، ففي تلك الفترة من الزمن لم تكن هناك وظائف حكومية بهذا العدد المتوفر الآن أو رواتب ودعم منظمات، بينما كان المواطن يتغذى من أحسن الطعام وأجوده، وكانت حكومة عدن في الجنوب توفّر السلع الأساسية عالية الجودة بأرخص الأثمان.

لقد ذهبت البركة عندما ترك الناس الأرض وبخلوا في بذل الجهد لعمارتها وجعلها تراباً صالحاً للبذر والغِراس، ولووا أعناقهم نحو الدكاكين والبقالات والمولات، فأصابهم من الفقر والعوَز وضنك العيش ما الله به عليم، بل حلّت بهم الأمراض والأوبئة التي لم تكن في أسلافهم.

اسألوا المواطنة "العجوز" مريم بنت قرية الشقعة في لحج التي نشرت صحيفة "الأيام" قصتها كمعمّرة تطاول بها العمر الى أكثر من 120عاماً، ماذا كان طعامها؟ بينما ما زالت تتمتع بصحة جيدة وتذهب إلى السوق بحيوية لشراء حاجتها، ثم انظروا إلى عثرات "الشرعية" التي شقّت على الطفل والعجوز في زمن الغلاء والوباء.

تأملوا بالوقت الذي اجتمع فيه الرئيس هادي بمجلس إدارة البنك المركزي، وشدّد على ضرورة اتخاذ تدابير عاجلة لإنقاذ الريال والاقتصاد، فيقفز سعر الدولار إلى 1035 ريالاً يمنياً، حتى بركة اللقاء بالساسة وولاة الأمر انتهت واضمحلّت عندما حل الكذب والزور والنفاق.
ويكتشف المتأمل لحياة الناس أن بعض معيشتهم الآن بقية من جهود مخلصة للعاملين في مجال الزراعة لتوفير الحاجة اليومية من الخضار الطازجة أو الفاكهة التي يجد للأسف صاحب الدخل المحدود صعوبة في شرائها.
إن ما نشهده في هذا البلد من تدهور في معيشة الناس وفقر مدقع ليس لأن في البلد أزمة مال، بل لأن فيه أزمة رجال.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى