تحت الشجرة

> كل الساسة إلاّ قليلا منهم يقضون أوقاتا طويلة في الغُرَف المُغلقة.
هذه البيوت من الكُتَل الخرسانية تمسح من أرواحنا أحاسيس الرِّقّة واللين، ولا تهبنا غير عقولا طافية فوق سطوح الأفكار.

لا شيء يُستجد هنا من عَبَق الوجدان عندما نبقى محبوسين بين كُتَل الإسمنت والحديد، فنقسو ويصير قوام الحُب في صدورنا غليظا فنتقاطع ونتدابر وتحل بنا الضغينة.
امضِ في الدروب، لمن اعتاد أن يذهب باكرا إلى مقر عمله لخدمة الوطن وقضاء حوائج الناس ولو على قارعة الطريق.

كان الآباء يحثّون أبناءهم في الماضي على السير في الغداة ويقولون لهم "الصباح الصباح"، وسمعنا منهم: "الصباح رَباح"، يعنون به ربحٌ لا خسارة وسعادة لا ندم.
نحن في هذا البلد المنكوب بحربٍ طاحنة يطوف ساستنا المُدن والأقطار، ويرتادون الدور والقصور، من الكويت إلى السويد ومن جنيف إلى برلين ومن عُمان إلى عَمّان، وما قدروا أن يُطفئوا نار الحرب ولا صنعوا لشعبهم سلاما.

ما زلت أتذكر ذلك الرُّجل السبعيني وزوجته اللذين كانا يخرجان باكرا من سكن الأجانب في الحي السياسي بمدينة خور مكسر عام 1990 ويبدآن ممارسة رياضة الجُري من طرف سور كلية التربية من جهة المطار إلى جولة معسكر بدر. إنهما يركضان ويبتسمان كأنهما يقولان للناس من حولهم"هيّا، دعوا الكسل واركضوا معنا" بينما يُصاب كثير من ساستنا عند هذا العُمر بالخَرَف، وفقدان الذاكرة!

إنّ تجارب الحياة تعلمنا أن من يمضون أوقاتا طويلة في الكسل والنوم العميق لا يصنعون إنجازا، ولا يحققون تنمية، بل يضاعفون من معاناة الناس عندما يتخلّون عن رعاية مصالحهم في الخير والسلام.
طيلة هذه المُدّة ألِفَ الناس في اليمن الحديث عن القصور والفنادق، عندما غابت عنهم سُلطات بلدهم في عواصم البلدان، بينما استمرت الحرب تُمْعِن في الدمار وصار ما يسمى بمفاوضات السلام كالسراب.

وفي تراثنا الإسلامي، إن بيت رسول الإنسانية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان من تراب وسقفه من أعواد الشجر، ولطالما استظل تحت شجرة، وهزّ غصن شجرة، وأسند ظهره إلى أصل شجرة، ومنبر خطابته من جذع شجرة، بل وبايع الناس تحت شجرة، "لقد رضي الله عن المؤمنين إذْ يبايعونك تحت الشجرة".

فكان يحنو ولا يقسو، ويسامح ولا يخاصم، ويلين ولا يعرف الفظاظة، فصنع مجدا وحقق إنجازا وشاد صرحا وبنى سلاما، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا.

لبيتٌ تخفقُ الأرياحُ فيه

أحبُّ اليّا من قصرٍ منيفِ

ما أحوج الساسة أن يغادروا مربع الأقبية والأبراج العاجية ومصاعد الألمنيوم وجدران الرخام إلى استراحة في ظل شجرة، أو نزهة في حديقة من العُشب والزَّهَر أو بستان من الزرع والنخيل فينسيهم خرير الماء في السواقي وشدو الأطيار في الحقول بعضا من فجور الخصومة الذي لحق بهم فيتبايعون على الحُبِّ والسلام ، والوصال لا القطيعة.

أيُّها السادة في هذا البلد، هل يصادر الآن قرار إلغاء التمديد لفريق خُبراء حقوق اليمنيين الذين ظُلموا في زمن الحرب؟ وماذا يعني أن تبتهج الحكومة لمثل قرار كهذا؟ وهل يأتي من ساح صُنّاع القرار في هذا البلد موقف يفطن ما وراء هذا التصويت عندما تذهب الحقوق للمصادرة والضياع؟
صباح الوداد على امتداد صيرة إلى خور مكسر حيث صوت الموج يطغي ونسمات البحر تتهادى.

مساء الأشواق في حضرة معبد العُشّاق، عندما تكون "يا ساحل أبين" أجمل بصوت المطرب العدني الأشهر.
إلى الساسة في الجنوب، لا نُريد أن نرى مثل "حرب الطويلة" بعد الآن، ولا نريد أن نسمع صوت الرصاص، بل نريد أن نستمتع بصوت الشلالات وقت المطر حين تتلقفها الصهاريج المعلقة في الجبل وصهريج "بيلفير" القريب من الوادي.
سلامٌ على عدن ملء الروح، وعليها سلامٌ حين نغدو وحين نروح.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى