الأحجار الكريمة.. العقيق اليماني في الصدارة

> تحقيق: محمد محمد إبراهيم / تصوير: عبدالرحمن الغابري

>
  • ​لا يزال يتصدَّر قائمة الأكثر طلبًا وإقبالًا في سوق الدول العربية والخليج العربي..
لا يزال العقيق اليماني يتصدَّر قائمة الأحجار الكريمة الأكثر طلبًا وإقبالًا وسط طفرة عصر المجوهرات، وعلى الرغم من جذور صناعته الضاربة في وجدان الإنسان اليمني، والعلاقة الحتمية بينه وبين الطبيعة، حيث امتهن اليمنيون الأجداد نحت الجبال وبناء القصور والمعابد، يواجه المنقِّبون التقليديون المهرة في اليمن تحدِّيات الحداثة الموصولة بتطور تقنيات وآلات التنقيب الحديثة، وما يرافقها من تلاشي الوعي لدى المنقِّبين الجدد الذين يستخدمون الديناميت في تفجير الكتل الصخرية، ما يؤثر على العقيق الخام.

ذهاب تقديرات المؤشرات الاقتصادية الأخيرة الصادرة مطلع 2021م إلى أن حجم التجارة العالمية للأحجار الكريمة بلغ 23 مليار دولار، لا يعني القيمة الحقيقية للاستثمارات في الأسواق العالمية، فخبراء الاقتصاد يؤكدون أن السوق العالمية تتجاوز هذا الرقم وأن 90 % من تجارة الأحجار الكريمة تدار من قِبل تجار غير رسميين، لا تطالهم دوائر الإحصاءات الرسمية.

اللافت في سياق الحديث عن الأسواق العربية والخليجية هو أن الأحجار الكريمة تشهد ازدهارًا ملحوظًا، لكن الإقبال الكبير على "العقيق" يظل في صدارة الاهتمامات.
ربما لأن مسمى "العقيق" المعجمي عربيًا وعالميًا، سافر من عمق العصور الغابرة، محافظًا على حضوره الجمالي من بين 200 نوع من الأحجار النفيسة - منها 190 صِنْفًا يحمل أسماءً أعجمية، و10 أنواع من هذه الأحجار عُرفت وشاعت عبر عصور التراث الثقافي العربي إلى عصرنا الحالي، ومن تلك الأسماء: (الألماس، والياقوت، والفيروز، والزبرجد، والزمرد، واللازورد، والمرجان، والعقيق، واللؤلؤ، والدّرّ) كما أن هذه الأنواع تُعدُّ من أصل 40 نوعًا تدخل في صناعة المجوهرات الرائجة في الأسواق.

ووسط طفرة عصر المجوهرات المرتبطة بتعدُّد المسميات وطرق التصنيع الحديث، وتغريب المهارات الإدراكية لأجودها إلا ما ندر، لا يزال العقيق اليماني يتصدَّر قائمة الأحجار الكريمة الأكثر طلبًا وإقبالًا في الدول العربية عامة، وفي الخليج العربي خاصة، وبعض دول الشرق أوسطية الأخرى، كباكستان وأفغانستان، ودول عالمية أخرى ولكن بمستويات أقل.

اكتشاف العقيق اليمني
اختلف المؤرِّخون حول بداية اهتداء اليمنيين إلى الأحجار الكريمة، لكنهم اتفقوا على أن الاكتشاف الحقيقي يعكس العلاقة الحتمية بين الإنسان اليمني والطبيعة، وامتهان اليمنيين الأجداد لنحت الجبال وبناء القصور والمعابد، والمدن التي ذكرها القرآن الكريم، كـ"إرم ذات العماد"، وهي المهن التي قادت لاكتشاف هذه الأحجار الكريمة، ومنها العقيق اليماني الذي ذكره كتاب "التيجان في ملوك حمير"، لمؤلفه "وهب بن منبه"، مشيرًا فيه إلى أن شداد بن عاد "بنى قصره من حجارة الجزع"، وأن العقيق اليماني جاب الآفاق ووصل إلى أوروبا في وقت مبكر، حيث ذكر أرسطو في عديد من آثاره أن أجود أنواع العقيق والجزع كانت تجلب من اليمن.

وتذكر المراجع أيضًا أن الملك المظفر الصليحي عندما أصبح حاكمًا لليمن، أرسل إلى حلفائه الفاطميين هدايا كان من بينها سبعون سيفًا مقابضها من العقيق، واثنا عشر سكينًا نصبها عقيق، وخمسة أثواب وَشْيٍ، وجام عقيق، وفصوص عقيق.
وتشير الشواهد المرجعية إلى أن الفُرس والروم فضَّلوا العقيق اليماني على العقيق الهندي واقتناه الملوك والأمراء وتبرك به العامة، أما الشواهد الأثرية فتفيد بأن صناعة العقيق اليماني ترجع إلى عهود قديمة، إذ ظهرت رسوم لفصوص العقيق في المنحوتات السبئية والمعينية، كما وُجدت فصوص من العقيق اليماني المصقول بعناية فائقة وإجادة تامة، تعود إلى العصر الحميري.

فيما تؤكد المراجع التاريخية اليمنية أن مكامن العقيق ومناجمه اشتهرت في مناطق يمنية كثيرة، منها جبال مديريات "عنس" و"المنار" و"آنس" و"ضوران"، و"حمير"، و"الغثم"، و"الجمعة"، و"حمل"، و"بني خالد"، و"جبل الشرق"، و"عتمة"، و"ملص" من محافظة ذمار. وجبال "خولان"، و"بلاد الروس"، و"همدان"، و"بني حشيش"، "وجاهمة ببني مالك"، و"جبل نقم" - من محافظة صنعاء، وفي "جبال المحويت"، و"جبال محافظة أب"، و"محافظة تعز" و"عدن" و"حضرموت"، وغيرها من المناطق، التي اكتشف المنقِّبون اليمنيون فيها مناجم قديمة مطمورة في سفوح الجبال، ومسارح المدرَّجات، فتحت هذه المناجم حسب شواهدها في أزمنة سحيقة.

من أسرار العقيق
تتجسَّد أهم أسرار العقيق، فيما تناقلته الأجيال عن الأجداد الذين امتهنوا التنقيب عن العقيق، عبر تتبع الإشارات التي تؤكد وجوده، مثل الصدف واللمعات الصغيرة التي تصدر من سطوح الكتل الصخرية المنتشرة في الجبال، فيبدأون الحفر وراء تلك الإشارات، وصولًا للطبقة الصخرية التي يختبئ فيها العقيق على شكل فواصل مستقيمة، تمتد أحيانًا لأكثر من 15 مترًا بشكل أُفُقِي يتجه غالبًا جهة "القبلة". وهو أحد أسرار العقيق التي لا يعرف لها سبب حتى اليوم.

واهتدى الأجداد قديمًا إلى أن أهم خواص العقيق، أنه معدن شبه شفاف، يتركب كيميائيًا من سيلكا خفية التبلور تحوي شوائب من مركبات الحديد التي يتوقف على كمياتها مظهر العقيق بألوان حمراء وصفراء أو بنية. وهو ما اكتشفه العلم لاحقًا من أن متوسط نسبة الحديد في العقيق الأحمر في بعض المناطق 0.35 %، وأن الكرنيليان الداكن اللون يتم معالجته بالحرارة، حيث تتأكسد مركبات الحديد فيه، فتزهو ألوانه الحمراء، وأن تسميته التي عرفت في القواميس Agate أو Onyx إنما يقصد بهما الجزع.

رحلة صناعة العقيق
العقيق اليماني، كسلعة ثمينة في سوق الحلي، لم تأتِ من فراغ، بل تُعدُّ نتاجًا لرحلة شاقة، تبدأ بالتنقيب في أجواف وأصداف الصخور، تتوج غالبًا بالوصول إلى حجر العقيق الخام، وقطعه على شكل أحجار، بأحجام قبضة اليد، ثم جمعه في أكياس، ثم جلبه إلى أكثر من 50 معملًا حِرَفيًا في صنعاء القديمة، التي تُعدُّ أحد أهم أسواق العقيق، إن لم تكن الوحيدة في اليمن.

- (القرَّاش): هي عملية تكسير الأحجار لتنظيف وفرز كتل العقيق بشكلها الأولي.
- (الرمل): وضع الكتل داخل أفران تقليدية أي أوعية فخارية مخصَّصة لرمل أحجار العقيق على نار هادئة، تغطيها طبقة من الرماد، ولمدة تتجاوز ثلاثة أو أربعة أسابيع، يتم خلالها تليين تلك الأحجام الصخرية الصلبة، وتسمى هذه العملية الترطيب.
- (التشتوف): التفصيل أو توزيع الأحجام المتوسطة إلى صغيرة وأصغر. ثم يتم تركيب الأحجام الصغيرة في أطراف عيدان خشبية تصنع لذلك ويلصق في كمية من اللوك، وهي مادة من اللبان والرماد لإزالة الشوائب.
-(الحك): تدليك تلك القطع في الحجارة الملساء المستوية.
-(القرَّاب): ويُعنى بها إزالة النمش بأحجار متوسطة الملمس بين الناعم والخشن.
- (التمليس) أو (الطسى): حيث يتم تدليك الفص بحجرة تسمى (المطسية) يؤتى بها من منطقة حرض، أو منطقة ميدي إذ لا توجد في أي منطقة غيرهما.
- (التلميع والصقل): وتتم عبر فرك الفصوص بالطباشير، ثم تقلع الألصاص، أي رؤوس العيدان، ويمسح اللوك العالق، وتجهز للبيع في الأسواق.

أنواع العقيق
- "العقيق الأحمر": أهم أنواع العقيق اليمني إذ يتميز بخصائص نادرة. وتندرج تحت هذا النوع أصنافًا أخرى، كالرماني بنوعيه الفاتح والغامق - الكبدي والخوخي والتمري -. وحجر الدم ذو اللون القاني الغامق، لكنه عديم الشفافية، وقد ساد الاعتقاد بأن هذا النوع يفيد لحبس الدم عند الرعاف، لكن هذا الاعتقاد لم يخضع بعد لتجريب علمي.

- "العقيق المصور": الذي يتميز بكونه مساحة فنية تختزل معجزات ربانية، ففيها توجد صورًا لحيوانات كالأسد والصقر. وصورًا ذات قداسة في الذاكرة الإنسانية كصورة الكعبة المشرفة، والقدس، وصور زعماء عرب كصورة للشيخ زايد، والسلطان قابوس. كما يشكِّل هذا النوع مسرحًا تعبيريًا لتفسير الرسوم التصويرية التي فيه كل حسب ثقافته.

- "العقيق المزهر أو المشجر": فيحمل ألوانًا متمازجة بين الأبيض والأحمر أو الأبيض والأسود والسماوي والذهبي والجزع والأسود.
- "العقيق الخرائطي": ويتميز عن غيره بخطوط ثنائية اللون أبيض أسود، وبشفافيته ذات الخلفية الضبابية، حيث تتشكَّل داخله الخرائط الواضحة وفق نوعين من الخطوط أسود وأبيض.
- العقيق النمري أو "حجر النمر": ويتميَّز هذا النوع باللون القاتم حيث تتداخل فيه ألوان ثلاثة (أبيض، رمادي، أسود).
- عقيق "حجر الشمس": يتسم باللون الشفاف المتراوح بين الأبيض والأصفر، ويتميز هذا النوع باختزان دفء الشمس لساعات طوال من الليل.
- عقيق "حجر السجين": يتميز باللون الأرجواني، وهو مكور وصغير ذو بريق لامع، يستخدم كخرز للحلي منذ قديم الزمان.
إضافة إلى "حجر الجزع" و"حجر أظافر الشيطان" ذي اللون الرمادي، و"حجر الفيروز" ذي الشفافية الآسرة، وله أربعة ألوان أزرق، أبيض، أخضر، رمادي.

سوق العقيق اليماني
شهدت العقود الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار العقيق الخام الذي يأتي من المنجم في أكياس كبيرة تسمى الحمولة أو الشوال سعة 50 كجم، حيث ارتفع سعر الحمولة أو الشوال من 400 ألف ريال يمني قبل سنوات عشر، إلى مليون ونصف أو ثلاثة ملايين ريال يمني في الوقت الراهن.
وتنحصر تجارة العقيق في العاصمة صنعاء، وتحديدًا في سوق باب اليمن، حيث يعج بعشرات المحلات لبيع العقيق، وتشهد إقبالًا وطلبًا محليًا وخارجيًا على شراء العقيق، وتؤكد الإحصاءات أن 85 % من إنتاج العقيق في اليمن يباع في العراق ولبنان والكويت والبحرين، و15 % تتوزع بين مختلف دول العالم، أما ما يقتنيه اليمنيون فلا يتجاوز 1 % (وفق تقرير اقتصادي صادر عن جمعية الصرافين اليمنيين، نشر في يونيو 2020م).

شهرة العقيق على المستوى العربي والعالمي دفع بعض هواة اقتنائه مؤخرًا إلى إنشاء مواقع على الشبكة العنكبوتية، تقدِّم خدمات تبادل وبيع وشراء النادر من فصوصه، حتى إن سعر بعضها يصل إلى آلاف الدولارات.
وبحسب آخر الإحصاءات فإن الإنتاج السنوي للعقيق اليماني الخالص يقدَّر بنحو 1600 كيلوجرام، يصدَّر 1000 كيلوجرامٍ منها إلى خارج اليمن، بمبلغ إجمالي يفوق نصف مليون دولار تقريبًا، وتُعدُّ هذه الإحصاءات تقديرية، إذ قد يفوق الإنتاج هذا الرقم بأضعاف كثيرة، لعشوائية العمل التجاري غير المسجل، وكثيرًا ما تذهب أنواع العقيق اليماني الجيد كهدايا من مسؤولين ورجال أعمال يمنيين لنظرائهم خارج البلاد.

تحديات الحاضر
يواجه المنقِّبون التقليديون المهرة في اليمن تحديات الحداثة الموصولة بتطوُّر تقنيات وآلات التنقيب الحديثة، والمتمثلة في معدَّات تكسير الصخور من كمبريشنات وبكلينات، لتفتيت الصخور الضخمة، وما رافق هذه الوسائل من تلاشي الوعي لدى المنقبين الجدد الذين يستخدمون الديناميت في تفجير الكتل الصخرية، ما يؤثر على العقيق الخام.

وعلى الرغم من كون هذه الوسائل تساعدهم في الوصول السريع إلى باطن الصخور، إلا أنها أفقدت المنتج إيجابيات الإزميل والمطرقة، في الحفاظ على جوهر المنتج، ومسارح تشكيلات فصوصه الساحرة، كما يعاني سوق تجارة العقيق اليمني تراجعًا في الإقبال، بالإضافة إلى ما يعانيه منتج العقيق اليمني المميَّز عالميًا من منافسة الأحجار الكريمة الصينية، خصوصًا تلك التي تُروَّج على أنها عقيق يماني، وتباع بأسعار متدنية، مهددة بذلك المنتج اليمني الأصيل، في ظل غياب الرقابة من الجهات المختصة، وهذا يدفع للتساؤل عن طرق اختبار العقيق اليماني ذي الجودة العالية.
معرفة العقيق اليماني الجيد تتطلب طرقًا بسيطة، تتمثل في المسح على سطح الفص، فإن كان خشنًا أو رمليًا فهذا يعني أنه غير جيد. وتنتفي جودة العقيق إذا كان سطح الفص قابلًا للطرق أو الثني. الحقيقة الأهم، تتمثل في أن الأحجار الصناعية تظهر عليها آثار البصمات وآثار الأظافر، على عكس حجر العقيق الأصيل الصلب.

العقيق في الموروث
العقيق اليماني ظل حاضرًا منذ القِدم في المورث الأدبي والشعري والفني العربي، واليمني منه على وجه الخصوص، ويكثر ذكر العقيق اليماني باعتباره حلية جالبة للسرور والارتياح والسعادة.

* مجلة القافلة، أرامكو السعودية - العربية نت

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى