إنترنت الأمكنة

> كل الأثير من حولنا مشبع بالنت، حتى الأكسجين الذي نتنفسه.

اصغِ قليلاً ستحس بضوضاء "القرية الصغيرة" قريباً من أذنك.

خلال أربعة أيام استراحت الأصابع من اللمس والطقطقة على الحروف، وازدهرت أكشاك الصحافة هنا في عدن، وكأن "النت" قد قطع هذا الوصال الجميل منذ زمن.

لقد صار في حس الكثير أن توقف الخدمة تحوّل إلى "قطيعة ووصل" في آنٍ واحد.

فالذي كان يراسل صديقه بالواتس ولا يراه منذ فترة، صار يهاتفه الآن ليُبرم معه موعدًا للقاء ويبث له أشواقه لرؤيته.

ولمّا كان الناس في الماضي لا يعرفون النت كان "الطَّبَل" الذي يحمل الرسائل والمصاريف من المدينة إلى القرية، لا يحتاج إلى رقيب ولا هاتف سيّار، وكانت العائلات تنتظره بفارغ الصبر وتفرح بوصوله أشد من فرح الناس الآن برسائل تصل من الكريمي أو العمقي.

كانت "الجوابات" أو ما تسمى بـ "الخطوط" لا تضيع وتصل مصونة مظرفة بالبوست والمصاريف محرّزة، وكانت منتظمة لا تغيب ولا تنقطع، كما كانت الملابس والهدايا تصل مغلفة ومقرطسة.

اليوم في زمن الشبكة العنكبوتية صار التوتر سيد الموقف، تجلس تنتظر رسالة "الحوالة" لما يقرح رأسك وأعصابك مشدودة، ويصل الأمر أحيانًا إلى السب والشتيمة ثم القطيعة.

خلال الأربعة الأيام الماضية التي عزلت اليمن عن العالم، ربما تبادل الناس أطراف الحديث عن أيام زمان الخالية من النت، فمن قائل: "لمّا كانت الدنيا بلا نت كانت الأسعار رخيصة والناس تعيش في حب وسلام، وكانت أيام السلا والبهجة، لا صراعات ولا خصومات ولا حروب".

ومن قائل: "لما كان أيام زمان بلا نت كان ما فيش أزمة غاز ولا بترول ولا مواصلات، وكانت الأفران مليئة بالروتي الصندوق والروتي الفرنسي والغداء كل يوم رز وصيد".

اليوم رغم أن النت متوافر في طول البلاد وعرضها إلا أن الدنيا غلاء وخوف ومشاكل، فقد تفرّق الإنترنت وصار حزبيات ومناطقيات وعصبيات ومذاهب وأهواء.

وإذا قُطِعت الخدمة جلس الناس القرفصاء ينتظرون متى تعود ليفرغوا ما بداخلهم من "الحُب والضغينة" على حد سواء.

لم يعُد الإنترنت في هذا البلد لخدمة الشعب وتسيير معاملاته وقضاء حوائجه في المرافق والمؤسسات فحسب، بل صار أيضًا وسيلة لإذكاء الفتن والصراعات وإحياء الخصومات وإشعال الحروب، وكل إناءٍ بما فيه ينضح،

ألا فلنتقِ الله في هذه النعمة، ولا نصيّرها إلى نقمة، والله المستعان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى