ما هو سر صمود "بي بي سي" في وجه الشدائد؟

> داليا محمد

> يقدم موظفو المؤسسة البالغ عددهم 22 ألفاً إنتاجهم بأكثر من 40 لغة ويشغلون ثماني قنوات تلفزيونية وطنية وأكثر من 50 محطة إذاعة.

يبدو أن الجميع غير راضٍ عن "بي بي سي" هذه الأيام. رئيس الوزراء البريطاني "يستشيط غضباً". الصحف الوطنية تتهم الهيئة بالوقوف في صف الأجانب. وفي البرلمان، يحاصر نائب محافظ رئيس الهيئة الإعلامية التي يمتلكها القطاع العام ويجبره على الاعتراف: "أنت، يا سيدي، خائن" (فيجيب بغضب: "كم أنت مقزز). والحديث الدائر في رئاسة الحكومة هذه الأيام هو عن قطع تمويل المؤسسة.

صحيح أننا نشاهد هذا يحدث في عام 2022، حيث تدين حكومة بوريس جونسون "الهيئة التي هاجمت بريكست" وتهدد بإلغاء ضريبة التلفزيون التي يدفعها الناس في بريطانيا وتستخدم لتمويل "بي بي سي". لكن في الواقع، بدأ هذا النزاع قبل 40 عاماً، عندما أثارت تغطية "بي بي سي" لحرب جزر فوكلاند غضب مارجريت تاتشر (على الرغم من أنها واصلت استمتاعها بمشاهدة المسلسل الكوميدي "نعم أيها الوزير" الذي كان يُعرض على بي بي سي)، ووقعت خلافات أسوأ عام 1956، في عز أزمة قناة السويس، وأثناء إضراب سنة 1926 العام. وفي نهاية المطاف، عندما انضمت "بي بي سي" إلى خط الحكومة في ذلك الموقف، قام رئيس الوزراء حينها ستانلي بالدوين، بإهدائها علب سجائر دائرية منقوشة كعربون شكر.

مشكلات قديمة بحلل جديدة
في الذكرى المئوية لتأسيس الهيئة الإعلامية، يعد الكتاب التاريخي الجديد المفعم بالحيوية "بي بي سي: تاريخ شعب" BBC: People’s History، للمؤلف ديفيد هندي بمثابة تذكير بأن الصراعات الحالية لـ "بي بي سي" (الخلافات مع الحكومة، والحروب الثقافية، والهيئات الأجنبية المنافسة وغير ذلك) ما هي إلا مشكلات قديمة بحلل جديدة.

في هذا الكتاب الذي نشرت مجلة "إيكونوميست" عرضاً له، يقدم المؤلف نظرة تاريخية ثاقبة على القرن العشرين في بريطانيا. ذات مرة، قال المؤرخ آسا بريجز، الذي كتب توثيقاً مميزاً لأول خمسين عاماً من تاريخ
"بي بي سي" في كتاب يمتد في 4 آلاف صفحة: "كتابة تاريخ الإعلام.. تعني كتابة تاريخ كل الأشياء الأخرى". تلقي شاشة "بي بي سي" المتوهجة ضوءاً كاشفاً على جمهورها.

اليوم، يقدم موظفو المؤسسة البالغ عددهم 22 ألف موظف إنتاجهم بأكثر من 40 لغة، ويشغلون ثماني قنوات تلفزيونية وطنية وأكثر من 50 محطة إذاعية والموقع الإخباري باللغة الإنجليزية الذي يزوره أكبر عدد من القراء في العالم. لكن تجاربها الأولى في "الإشعاع"، كما كان يُعرف البث الإذاعي حينها، كانت تجارب غير احترافية. كان الاستوديو الضيق يتسع فقط لميكروفون واحد وآلة بيانو. كان مدير البرامج ونائبه يتناوبان على قراءة قصص الأطفال بصوت شخصيتي "العم آرثر" و"العم كاراكتاكوس". وخلال أول عرض جماهيري لمسرحية متلفزة في عام 1930، ذابت الشاشة العملاقة التي كانت تحتوي على ألفي مصباح كهربائي.

ومع ذلك، سرعان ما أدرك موظفو "بي بي سي" الشباب أنهم يتحكمون بشيء مؤثر. كتب سيسيل لويس، أحد مؤسسي الهيئة: "كان من الواضح تماماً أنك إذا سلمت الميكروفون لشخص مجنون، فسيكون قادراً على إحداث ضرر كبير". بعد عشرين عاماً، وجدت أول دراسة لعادات المشاهدة عند الناس أن الأسر تعدل أنشطتها بناء على جداول بث البرامج: يتم تغيير مواعيد الوجبات وأوقات النوم، وإهمال الأعمال المنزلية المسائية، والتقليل من الخروج إلى الحانة لشرب الكحول وتناول المزيد منه في المنزل.

علامات الزمن واضحة على "بي بي سي"
تشكلت "بي بي سي" في أعقاب الحرب العالمية الأولى، التي تركت أثرها على مؤسسيها، كان ذلك الأثر فعلياً في حالة أول مدير عام للهيئة، جون ريث، الذي أصيب برصاصة قناص في خده في فرنسا. لكن الحرب العالمية الثانية غيرت "بي بي سي" أكثر بكثير. بحلول عام 1944 كانت الهيئة تبث محتواها بـ 46 لغة، وبحلول نهاية القتال بلغ عدد مستمعيها في أوروبا 20 مليون مستمع. تعاونت المؤسسة مع وزارة الدفاع لتمرير رسائل مشفرة عبر التقارير الإخبارية أو المقطوعات الموسيقية. في يوم إنزال النورماندي، بدأ أكثر من 1000 عملية تخريب للسكك الحديدية عبر "بي بي سي". لم تسر الأمور دائماً كما هو مخطط لها: وبحسب تعبير أحد المنتجين: "إذا أذاعوا المقطوعة الموسيقية الخطأ.. سيتم تفجير الجسر الخطأ في بولندا".

كما أن إنتاجات "بي بي سي" في زمن الحرب كانت تعكس التغيرات في الداخل. مع انتشار أجهزة الاستقبال اللاسلكية بين الأسر الفقيرة، أصبحت البرامج أكثر واقعية: قدم برنامج "جبهة المطبخ" نصائح حول صناعة الجبن من الحليب الحامض ووصفة لطهي أوراق السرخس البرية. كما أجبرت المحطة على تقديم محتوى مرح أكثر. خلال الشتاء الأول من الحرب، كان حوالى ثلث البريطانيين يتابعون قنوات البث النازية مثل ويليام جويس، الملقب باللورد هاو هاو، الذي كان يبث موسيقى حيوية أكثر من تلك الجادة التي يختارها ريث. جاء رد "بي بي سي" من خلال "برنامج القوات"، الذي جمع بين الأخبار والمنوعات والموسيقى، وكان النفس الديني فيه أقل من الماضي. استمرت هذه التركيبة الناجحة بعد الحرب.

كان التعاطي بأريحية مع المواضيع الاجتماعية في زمن الحرب شيئاً لا يذكر مقارنة مع ما سيحدث في المستقبل. شكل موضوع العرق أحد ساحات العراك الثقافي. أجبر تمركز 130 ألف جندي أميركي من أصل أفريقي في بريطانيا "بي بي سي" على جعل برامجها مدركة أكثر لمسألة العرق. لكن في عام 1950، بعد شكاوى المشاهدين، قرر مراقبو التلفزيون فيها أنه "تجب دراسة أغنيات الحب التي تجمع بين فنانين بيض وملونين بدقة شديدة". استمر "برنامج بلاك أند وايت الموسيقي" الترفيهي الذي كان يقدمه مذيعون بيض يرتدون أقنعة سوداء حتى عام 1978، بعد مرور أكثر من عقد على إنشاء عريضة طالبت بإيقافه.

كما أن المعارك التي دارت حول الجنس كانت طاحنة أكثر. تعرضت "بي بي سي" للوم لمسؤوليتها عن "الانهيار الأخلاقي" الذي أصاب البلاد في الستينيات والسبعينيات، كما اعتقدت ماري وايتهاوس، الشخصية الأسطورية التي كانت تناهض "التساهل مع الإباحية" على شاشات التلفزيون. بحلول ذلك الوقت، كانت هوائيات التلفزيون أو "قرون الشيطان"، كما كان البعض يسميها) تنتشر على كل سطح. في عام 1964، عبر ريث الذي وصل إلى سن التقاعد في ذلك الوقت، عن أسفه بعد إطلاق البرنامج الموسيقي "أفضل أغاني البوب" لأن "بي بي سي" "تتبع هوى الجماهير في جميع مظاهر العصر المثيرة للاشمئزاز". عندما قرأت الفنانة وشريكة الموسيقي الراحل جون لينون، يوكو أونو، قصيدة عن إجهاضها عبر الراديو في عام 1968، اعترض رئيس مراقبي عمل "بي بي سي"، تشارلز هيل، لأن أونو ولينون لم يكونا متزوجين.

على كل حال، في العام ذاته، كانت "بي بي سي" جريئة بما يكفي لبث مسرحية "مناظر طبيعية" Landscape، للكاتب هارولد بينتر، وهي مسرحية اعتبرت بذيئة جداً كي يسمح بتقديمها على المسارح. وكانت في وقت سابق قد أطلقت برنامج "حدث ذلك في هذا الأسبوع"، وهو جزء من طفرة وطنية في الأعمال الناقدة، شملت ظهور مجلة "برايفت آي" Private Eye وعرض "ما وراء الهامش" Beyond the Fringe المسرحي. أصبح الشعور بمعاداة السلطة بصفاقة راسخاً جداً في المؤسسة الإعلامية، لدرجة أن صحيفة "صنداي تلغراف" تحدثت عن ظهور "مؤسسة مناهضة للمؤسساتية"، وهي صورة الماضي لما نراه اليوم من شكاوى الجناح اليميني حول النخبة الليبرالية.

اختراق الطبقية البريطانية الراسخة
وعكس المحتوى المقدم تآكل الانقسامات الطبقية وعززه. في عام 1937، استطاع عامة الناس الاستماع إلى مراسم تتويج جورج السادس، وذلك بفضل 58 ميكروفوناً نشرتها "بي بي سي" في كاتدرائية وستمنستر وحولها. بعد ستة عشر عاماً، سمح لكاميرات "بي بي سي" بالدخول لتصوير تتويج إليزابيث الثانية. فرض مسؤولو القصر بقاء المصورين على بعد 30 قدماً (تسعة أمتار)، لكنهم لم يحسبوا حساب العدسات المقرِّبة التي استبدلت "بي بي سي" بها عدسات الكاميرات العادية بعد البروفات. في عام 1997، كانت جنازة الأميرة ديانا بمثابة اختبار لموقع "بي بي سي" الإلكتروني الناشئ، الذي جرب تحميل مقاطع صوتية ومرئية في تلك المناسبة.

يجمع الكاتب هندي، الأستاذ في جامعة ساسكس، بين الحس البحثي للمؤرخ وعين الفنان التي يمتلكها بفضل عمله منتجاً في التلفزيون في السابق. يمكن الوثوق بروايته، بمعنى أن "بي بي سي" سمحت له بالوصول إلى الأرشيف، لكنه لم يكن مخولاً لتعديل ما ورد فيه. يركز العمل على الخمسين عاماً الأولى من حياة "بي بي سي"، التي تشكل ثلاثة أرباع الكتاب، ولا يتم التطرق إلى موضوع الإنترنت إلا بعد مرور 500 صفحة.

ربما لهذا السبب، لم يكن الجزء الذي يتناول الأسلوب الذي ينبغي على الهيئة أن تتبعه في التعامل خدمات البث التدفقي "الهوليوودية" مقنعاً، إذ تلقى هذه الأخيرة بالفعل رواجاً بين الجماهير الشابة أكثر من المؤسسة الممولة من القطاع العام. يعتقد هندي أن على "بي بي سي" أن تصبح مؤسسة أضخم (مما يعني ضمنياً زيادة التكلفة التي يتحملها الجمهور). بكل الأحوال، تنفق "نتفليكس" أكثر من خمسة أضعاف ما تنفقه "بي بي سي". بالتالي، ما هو المبلغ الإضافي الذي يجب إجبار المشاهدين الشباب على دفعه مقابل ترفيه هم رافضون له في الغالب؟

ومع ذلك، أظهرت "بي بي سي" خلال مئة عام تأسيسها، موهبة في الصمود. حاول كل من ونستون تشرشل وتاتشر إحباطها وفشلا. اجتذبت المحطات الأوروبية ومحطات الإذاعة غير المرخصة الجماهير، لكنها تعرضت للهزيمة. تفوقت محطات التلفزيون التجارية على "بي بي سي" في البداية، قبل أن تطور الأخيرة برامج حققت نجاحاً أكبر. يمثل عصر "يوتيوب" تحدياً للهيئة التي تسعى إلى الإعلام والتثقيف وكذلك الترفيه. لكن تحقيق هذا التوازن أيضاً ليس جديداً. كتب ريث: "يجب أن تقود "بي بي سي" مستمعيها، لا أن تتبعهم، لكن يجب ألا تكون متقدمة مسافة كبيرة تؤدي إلى خسارة متابعيها".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى