على خلفية الحرب الروسية - الأوكرانية.. التاريخ وانتقام الجغرافيا

> مشكلة أوكرانيا هي الجغرافيا، وتاليا يأتي التاريخ ليقربنا من مشهد يتحدث عن أشياء إن بدت فسرت لنا كثيرًا من المبهم في المشهد الروسي - الأوكراني اليوم.

غير كافٍ -كما يقول القذافي رحمه الله- استقلال أوكرانيا والسبب هو تاريخ أوكرانيا والمنطقة، فقد حصلت أوكرانيا على الاستقلال 5 مرات -كما يقول- ودام في بعض الحالات 6 أشهر وأحيانا 3 أشهر حتى 18 ساعة.

ونؤكد على الجغرافيا فالتاريخ، فموقع أوكرانيا ما بين نطاقين كبيرين: روسيا وأوروبا جعلها ممرا مخضبا بالدماء والدموع والاشلاء والمعاناة كلما بدا للغرب الأوروبي أن يعطي لنفسه دفعا أو نزقًا لغزو روسيا، ليس آخره نابليون بونابرت أو أدولف هتلر بينما (الحدوثة) التاريخية تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.

يتنفس التاريخ عبق (السلافي) المشترك بين روسيا وأوكرانيا، فهناك ما يجمع بين الطرفين أكثر مما ينزع عرى التآلف بينهما. قديما كانت دولة (كييفسكايا - روس) بعاصمتها (كييف) حوالي القرن التاسع واحدة من حقائق التاريخ المعززة بثوابت الجغرافيا، وعندما تجتاح جحافل التتار والمغول الشرق كان نصيب الطرفين ممضًا ومؤلما في القرن 12م.

وتستجد الحوادث بنهوض تحالف عسكري عدواني قوي بين بولندا ولاتفيا تصبح أوكرانيا واحدة من فرائسه، ولن يكون المنقذ لأوكرانيا سوى الإخوة السلافية الروسية بعد استنجاد الأمراء في (زابروجيا) بالقيصر الروسي الذي بدا متلكئا بسبب عواقب الدخول في حرب مع التحالف البولندي - اللتواني ولكنه يفعل ذلك منتصف القرن 17م.

واللفظة (أوكرانيا) بولندية بالأساس بينما تتسمى هذه البلاد تاريخيا بـ (روسيا الصغرى) لتشكل مع (روسيا البيضاء) وروسيا الأم قوام روسيا الكبرى أو العظمى.

وتضيف روسيا المنتصرة أراضي بولندية إلى قوام أوكرانيا.

وتمدد الإمبراطورية الهنغارية - النمساوية في القرن 18م لتضم أوكرانيا الغربية إليها، وربما كان التفكير الاوروبي الاستعماري ساعيا إلى تفكيك الشفرة الجينية السلافية لهذه الأمة عن طريق الافتراق العقدي الديني، حيث زرع النمساويون المذهب الكاثوليكي في الغرب الأوكراني على حساب المذهب الارثوذكسي الشرقي، السائد.

لم تكف أوروبا كلها عدا بريطانيا شهية نابليون بونابرت وقد أصبح إمبراطورها غير المنازع، فراح يتلفت صوب الشرق مسكونا بالإيهام والإلهام المعزز بنشوة الانتصارات المتتالية ومفتونا حقا بالسحر الغامض في أرض القياصرة الثلجية، حيث قباب الكنائس المذهبة الضخمة ترسل أشواظا حمراء من أشعة شمس ناعمة تتكسر على القباب وتضفي سحرا أسطوريا باذخا في سماء (موسكو).

طوى الاراضي البولندية ؛ حيث وجد من يلتحق به، والاراضي الاوكرانية قبل ان يستعرض نخبة جيشه في الساحة الحمراء غير آبه بالنيران المتصاعدة من كل أرجاء المدينة، لكن موسكو كالزهرة صائدة الحشرات أغلقت أبوابها على من بداخلها من المحتلين وأطبقت قوة الفرسان والنبلاء الروس الحصار على مدينة لا تأكل إلا من خيرات حزام القرى المحيطة بها، وشارك الجنرال (ثلج) في وطأة الجيش الغازي عندما وصلت درجة الحرارة إلى الأربعين درجة تحت الصفر.

وحين يهرب نابليون يلاحقه الفرسان الروس حتى العاصمة باريس.



ولأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا بصورة مغايرة أكثر تراجيديا وأكثر مأساوية فقد خرجت فيالق الجيش الأحمر في العام 1945م من الغابات والمدن المحاصرة، كما تخرج العنقاء الأسطورية من تحت الرماد، لترد هتلر من أبواب موسكو ولينينجراد وتذهب مع جيشه في سباق ماراثوني مكلف لم يقف فيه المتسابق السوفييتي إلا في داخل بيت الرايخ النازي في برلين.

ولأن تضحيات الروس في العام 1812م والحرب العالمية الثانية 1940 - 1945م موشحة بلبوس القداسة الوطنية فأنهم لم ينسوا للبولنديين التحاقهم بنابليون بونابرت والتحاق عدد من الأوكرانيين بهتلر، لكن المؤلم حقًا أن أولئك النازيين الأوكران مثل (بنديرا) قد أعيد لهم الاعتبار وتحمل صورهم في المظاهرات والاحتشادات باعتبارهم أبطالا قوميين، وتأسست فرق تسير على ذات النهج النازي في أوكرانيا وتمارس أعمالا إرهابية تحت سمع وبصر الدولة ودون أن نسمع تنديدا من أوروبا الغربية التي يفترض أنها قد عانت من الفترة النازية.

لقد أعطت روسيا جارتها أوكرانيا أكثر مما تطلب، في بذخ بلشفي وسوفييتي لم يقرأ حقيقة لأن الجغرافيا ثابتة والتاريخ متغير، ففي العام 1917م تأسست جمهورية أوكرانيا الشعبية من دون الغرب الأوكراني، وعندما أسس (لينين) زعيم البلاشفة جمهورية أوكرانيا السوفييتية الاشتراكية في العام 1922م ضم إلى غرب أوكرانيا المناطق الشرقية الغنية بالمعادن وبالصناعات الثقيلة وحيث الطبقة البروليتارية في الدنباس ودانيتسك.

وفي نهاية الحرب العالمية الثانية اقتطع الاتحاد السوفييتي أراضي من بولندا وألحقها بأوكرانيا.

واقتطع زعيم الحزب الشيوعي السوفييتي الأوكراني الأصل (نيكيتا خروتشوف) لموطنه الأم شبه جزيرة القرم عام 1954م.

وكان الرئيس بوريس يلتسن تحت نشوة كؤوس الفودكا المترعة قد تبرع بالقرم لأوكرانيا التي كان وفدها المفاوض على الاستقلال عام 1991م لا يحلم -مجرد حلم- بذلك.

وكان كل ما خرج به غورباتشوف من الغرب بتفكيكه لحلف وارسو أن لا تضم دوله إلى الناتو وأن لا يتمدد هذا الأخير باتجاه روسيا وهو ما لم تتقيد به دول الناتو فقد أصبحت بولندا ورومانيا وبلغاريا والمجر ناهيك عن لاتفيا ولتوانيا وأستوانيا دولا في الحلف.

كانت النزعة المعادية لروسيا في أوكرانيا تتم على أساس محاربة التاريخ والجغرافيا معا، بمباركة وتشجيع من أمريكا والغرب الأوروبي.

فدول الغرب شجعت أوكرانيا منذ البدء أن تلعب دور مخلب القط في الخاصرة الروسية، لكن الغرب أيضًا قد قدم أوكرانيا ككبش فداء لتوريط روسيا في حرب استنزاف مكلفة تخرج منها مثخنة الجراح لكي تتفرغ أمريكا للتنين الصيني القادم دون هوادة إلى الصدارة العالمية.

لكن كل المؤشرات تشير إلى أن العملية العسكرية لروسيا تحقق أهدافها في فصل الشرق الأوكراني عن الغرب وضرب البنية العسكرية الأوكرانية وإرغامها على الحياد وعدم التفكير بالانضمام إلى الناتو مستقبلا.

وأصبح الغرب الأوروبي اليوم يرى أن التصعيد الأمريكي تجاه روسيا غير مقبول، كما أن العقوبات المفروضة على روسيا لن تقتصر تبعاتها على روسيا وحدها وإنما ستتأثر الاقتصاديات الأوروبية بما هو أسوأ وخاصة في مجال الطاقة.

إن شرار هذه الحرب تلسع أوروبا الآن وسيصل شرارها إلى أمريكا نفسها التي تتباكى على الحرية والليبرالية والديمقراطية وهي بذلك لا تخدع إلا نفسها، فالذاكرة الإنسانية مترعة بجرائمها في العراق وأفغانستان وليبيا يومها لم يفكر الغرب إلا في مصالحه وأهدافه وليس على أساس الملايين من الضحايا من الأطفال والشيوخ والنساء والشباب في العراق وأفغانستان وليبيا واليمن وفلسطين ومن قبلهم فيتنام وغيرها من الدول.

=====

1) اقرأ كتاب روبرت كابلان (انتقام الجغرافيا)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى