​قصص من التاريخ

> قضية سمرقند

الحلقة الثانية

لم يستطع الرجل من دهشته أن يدير نظره فيما حوله أو أن يملأ عينيه من الكهنة ومن كان معهم، وسمع كلاماً ينصبّ في أذنيه بصوت خافت رهيب كأنما هو يسمعه حالماً، وفهم أن المتكلم يذكر ماضي سمرقند وسالف مجدها، وكيف هبط عليها هؤلاء المسلمون هبوط البلاء، فأزاحوا عرشها وحطموا جيشها، وحكموا وملكوا أمرها. ثم أفاض في الكلام على الخطة التي اختطها لإفساد أخلاقهم ودينهم وإضعافهم وإلقاء الخلف بينهم، وكانت خطة شيطانية ارتجف لسماعها.

ثم عاد المتكلم فقال: غير أنّا رأينا أن نرجئ خطتنا ونرمي آخر سهم في جعبتنا؛ وذلك أنّا سمعنا أن لهؤلاء القوم ملكاً عادل.

يقيم في دمشق، فأزمعنا أن نرسل إليه رسولاً يرفع إليه شكايتنا ويشرح له مظلمتنا، ثم نرى ما هو فاعل. وقد اخترناك لمعرفتك العربية وجراءة جنانك لتكون أنت الرسول، فهل أنت راضٍ؟

قال: نعم.

قال: امضِ بتوفيق الآلهة!

وخرج وما تسعه من فرط الزهو الأرض، وأحس من الخفة والنشاط أنه سيطير، ورأى ظلام الليل أبيض مضيئاً. ولقد اعتدّها نعمة كبرى أن دخل المعبد وكلم الكهنة وكان موضع ثقتهم ونجواهم، وأن أولوه شرف القيام بأضخم مهمة عهدوا بها إلى أحد، وشعر أن حرية قطر سمرقند وشرفه في يمينه، وأنه هو المحامي عنه والمنافح دونه. وكان - لفرط شجاعته - يتمنى لو كلفوه حرب المسلمين وإخراجهم من بلده. ولم يكن يعرف مبلغ قوتهم وجلال ملكهم، وأن هذا القطر كله في جنب دولتهم كالساقية التي جاءت تغالب البحر (ولو مد البحر وأزبد وهاج لاقتلع الساقية من منبعها فشربها، فضاعت فيه فلم يبق لها أثر). فلما شد رحاله وسافر، ومضى يقطع الليالي الطوال، والأسابيع والشهور، وهو لا يفتأ يمشي في ظلال الراية الإسلامية المظفّرة لم يُلقِ عصا التسيار ولم يبلغ العاصمة ... من سمرقند، إلى بخارى، إلى بلخ، إلى هرات، إلى قزوين، إلى الموصل، إلى حلب، إلى دمشق ... دنيا من الخصب والحضارة والمجد، وبلاد كانت ممالك كثيرة، ما مملكة منها إلا وهي أعظم وأضخم من سمرقند ... وما سمرقند في جانب ملك كسرى وخاقان؟ فأين ملك خاقان وكسرى؟ لقد ابتلعته المدينة المتوارية بين الحرتين وراء رمال الجزيرة، تلك القرية التي هزها محمد بيمينه فولدت الأبطال الذين انتشروا في آفاق الأرض وملوكها، وأنبتت رمالها جنات الشام والعراق وفارس وخراسان وهذه البلاد الخصبة الممرعة التي ليس لها آخر ... وكان كلما تقدم ورأى جديداً من دنيا الإسلام تمتلئ نفسه فرقاً من لقاء الخليفة.

وأفاق يوماً من ذهوله - بعدما صرم في هذه الرحلة أشهراً - على صوت الدليل وهو يهتف باسم «دمشق».

هذه دمشق، سرة الأرض، هذه سدة الدنيا. هنا التقى والعلى والمجد والغنى والجلال والجمال، من هنا تخرج الكلمة التي تمضي مطاعة حتى تنتهي إلى بلده سمرقند، وتمضي من هناك حتى تبلغ أرضاً أبعد وأنأى، حتى تجوز إسبانيا. هنا يقيم الرجل الذي ملك ما لم يملكه في سالف الدهر قيصر ولا كسرى ولا الإسنكدر ولا خاقان، والذي لا يجد من جبال الصين إلى بحر الظلمات من يخالف عن أمره أو يرد قوله.

ولكن كيف الوصول إليه؟ وأنى لغريب منكر مثله بالدخول عليه؟ تتمة القصة غدا....

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى