71 عاما على رحيل شيخ المطربين اليمنيين!

> محمد عبد الوهاب الشيباني*

> قبل واحد وسبعين عامًا، تُوفِّي في عدن المطرب الشهير علي أبوبكر باشراحيل -يظهر في بعض التداولات باسم "علي العدني"- بعد أن ملأ الدنيا وأطرب الناس بالغناء الشعبي اليمني لسنوات طويلة، وتتلمذ على فنه المطربون الصاعدون في ذلك الوقت: إبراهيم محمد الماس، وأحمد عبيد قعطبي، وعلي عوض الجراش، وحامد عوض القاضي، وغيرهم، وبقي حتى سنوات قليلة من وفاته يحضر الأعراس ويغني فيها، ويستقبل أصدقاءه في مسكنه ليطربهم ويشجيهم، رغم ما كان يعانيه في شيخوخته من أمراض جمَّة وفتاكة، لكنها لم تمنعه من مزاولة نشاطه حتى أمتار حياته الأخيرة.
محمد عبده غانم
محمد عبده غانم


قبل وفاته بقليل، كانت عدن تشهد حراكًا موسيقيًّا شديد الالتباس، إذ برزت إلى الواجهة الندوة الموسيقية العدنية في أواخر الأربعينيات، مع بروز (الجمعية العدنية) في الحياة السياسية رافعة شعار عدن للعدنيين. الندوة التي تشكلت من مجموعة من الموسيقيين والأدباء، أمثال: (محمد عبده غانم، وخليل محمد خليل، وعبدالله حامد خليفة، وياسين شوالة، ووديع سالم، وعبدالله بلال، وعلي سالم علي، وعبده أحمد ميسري، قبل أن ينضمّ إليهم تاليًا: سالم بامدهف، ويحيى مكي، وإدريس حنبلة، وغيرهم)، وكانت تبحث وتؤسس لهُوية خاصة باللون الغنائي العدني، بعد أن صارت تأثيرات الأغاني المصرية والهندية وأغاني الأفلام واضحة فيما يقدم تحت مسمى اللون العدني.

 انطلق مشروع الجمعية الغنائي من أغنية الشاعر محمد عبده غانم والمطرب خليل محمد خليل المشهورة (حرام عليك تقفل الشباك)، التي عدَّها الباحثون المؤسِّسة الأولى للون العدني إلى جانب أغنيتي (يا حياتي) و(كلام العين) للثنائي ذاته. غير أن أحد أساطين الندوة الكبار، وهو الدكتور محمد عبده غانم سيصير منظرًا كبير للون الغنائي الصنعاني، وسيصير كتابه الذائع (شعر الغناء الصنعاني) أهم مراجع هذا اللون، والذي كابد فيه الباحث طويلًا لقلة المصادر في موضوعاته التي تتمدد في زمن طويل، ابتداء من القرن السابع الهجري، حينما بدأ التوثيق للشعر الحكمي، وهو أمر تنبه له الناقد الراحل شوقي ضيف في تقديمه للكتاب وقت صدوره، حين قال: "والدراسة تشهد بالعناء الشاق المضني الذي احتمله الدكتور محمد عبده غانم في سبيل هذه الدراسة التي كانت تقف دونها كثرة من العقبات والصعوبات".

صعوبة الدراسة تعكس هي الأخرى، الصعوبةَ الكبيرة في تلحين الأغاني وتأديتها، وتحتاج إلى خبرات وثقافة خاصة في التعامل معها، وهو ما كان يتحلى بها الشيخ باشراحيل، وربما قبله بقليل (محمد الماس) والد المطرب الشهير إبراهيم الماس، والمنحدر من منطقة كوكبان، والذي استقر به المقام بعدن بعد هروبه من صنعاء، بعد التضييق على المطربين في بداية حكم الإمام يحيى مطلع العشرينيات.
سالم بامدهف
سالم بامدهف

لم يكن في عدن، في الأربعينيات، مطربون محترفون غير الشيخ علي أبوبكر وعدد محدود جدًّا من المطربين، وإن الذين كانوا يحيون حفلات الأعراس في (المخادر) مؤدون هواة وفرق شعبية جائلة تتكسب من ترديد الأغاني الرائجة، تُروى الكثير من الحكايات التي تربط بين الشيخ علي أبوبكر واحترافه للغناء ليقتات منه، بعد أن كان يزاول أعمالًا متعددة في الدوائر الحكومية للسلطة الاستعمارية في عدن، يساعده في ذلك إتقانه اللغة الإنجليزية حين كان يعمل كاتبًا ودلّالًا تجاريًّا في منطقة المعلّا، ومنها الرواية التي تقول إنه: اشترى عودًا يمنيًّا تقليديًّا بأربعة أوتار (قمبوس) من أحد الفنانين القادمين من صنعاء، والذي قام أيضًا بتعليمه العزف على العود الصغير، وحفظ منه مجموعة لمقامات الأغاني وكلماتها وألحانها، لينطلق بعدها إلى عالم الغناء والشهرة، غير أن حكاية مثل هذه يشكك فيها كثيرون، ومنهم الفنان الراحل محمد مرشد ناجي في كتابه (الغناء اليمني القديم ومشاهيره)، حين يقول:
خليل محمد خليل
خليل محمد خليل
"حكاية كهذه يصدقها العارف؟ لا، ثم لا ولا. فنان عنده هذه الموهبة الفذة في الغناء، وأي غناء! لا يطوله طائل بهذه السهولة التي حكته لنا هذه الحكاية، وحولته في جلسة غنائية واحدة من دلال في التجارة إلى شيخ في الغناء".

 يذهب المرشدي، ومثل كثيرين أيضًا، إلى أن موهبة الغناء عند الشيخ باشراحيل ربما تمتد إلى طفولته الباكرة، وأنه بقي ينمِّيها سرًّا في العزف والغناء في أصعب الألوان (اللون الصنعاني)، وأنه حينما تقاعد من عمله في الدلالة بسبب تقدمه في العمر، بدأ يظهر على الناس بفنه الذي يتكسب منه.
ادريس حنبلة
ادريس حنبلة

شحة المصادر عن حياته -بسبب أنه وحيد العائلة، وربما لم يخلِّف صبيانًا- وضعف التوثيق في تلك المرحلة جعلت كل التراجم لحياته الفنية تعتمد تقريبًا على ما كتبه عنه المرشدي في كتابه المشار إليه، وفي كتابه المبكر (أغانينا الشعبية 1959) حين صنَّفه في الصف الأول من مطربي الأغاني الشعبية- مدينة عدن، واعتمدها المرشدي، هو الآخر، من مشافهة أحد أصغر أصدقاء باشراحيل اسمه (عبدالمجيد حجام) والذي رافقه حتى مماته في العام 1951م.
ابراهيم محمد الماس
ابراهيم محمد الماس

كان باشراحيل: "يحترف الغناء احترافًا كليًّا ليكسب قوت يومه، وهذا الاحتراف جعله يقترب من الجمهور ويلتصق به في (المقايل) اليومية والحفلات العامة، فأحبه الجمهور ورفعه إلى المكانة الأولى، ولا يكاد المرء يفكر في إقامة حفل عرس إلَّا وكان الشيخ علي أبوبكر في رأس قائمة المطربين، وكان التقليد في إقامة حفلات الأعراس يسبب للقائمين بها نفقات ضخمة، فكان يدعى لإحياء هذه الحفلات أربعة إلى ستة مطربين، وكنت ترى الشيخ علي أبوبكر يجلس في مقدمة المطربين بمواجهة العريس، مرتديًا قميصه الأبيض [الثوب العربي]، ولا يجلس إلى جانبه أحد سوى عوده الصغير ذي الأربعة أوتار [القمبوس الصنعاني أو الطُربي]، وكان لا يقبل أي آلة موسيقية أخرى تصاحبه ولو كانت آلة إيقاعية كالطبلة أو الدف، وإنما يفضل أن يكون منفردًا؛ لأن أمثال هذه الآلات على حد رأيه تفسد عليه الانسجام، وكان ينفعل أحيانًا بأغانيه ويندفع بالغناء، يلحق الأغنية بالأخرى، فيعم الجميعَ صمتٌ شامل، وترهف الأسماع لتستوعب النغم الشجي، وكأنه لا يحس بالجمهور من وجوده، وعندما يستفيق يشعر بالجهد الذي بذله في مواصلة الغناء، فيطرح العود ويتعالى التصفيق من كل أرجاء الحفل". (أغانينا الشعبية، ص 33-34).
يحيى مكي
يحيى مكي

وفي صفحة أخرى من الكتاب ذاته، أورد المرشدي بعضًا من سلوكيات الفنان باشراحيل، ومنها: أنه كان فنانًا غير مادي، ولا يشترط في أي تعاقد لإحياء الحفلات أجرًا معينًا، وإنما كان الناس يكرمونه تقديرًا لفنه ومركزه المرموق في الغناء أضعاف ما يحصل عليه أي مطرب آخر، ولم يكن يتناول طعامه في حفلات الأعراس، وأنه كان يحترم فنه احترامًا كبيرًا، فإذا ما دُعي إلى أحد المقايل فهو يشترط أن يكون مجلسه محترمًا، وأن يكون (قاته) من النوع الجيد (التعزي)، وقيل عنه إنه كان يغني ذات يوم في أحد المقايل، ولم ينصت إليه أحد، إذ كان من في المقيل يضحكون ويتحدثون غير مبالين، فما كان منه إلّا أن وضع عوده الصغير في جرابه ومشى، واعتبر موقف أولئك مساسًا بكرامة فنه. (ص 35).
احمد عبيد القعطبي
احمد عبيد القعطبي

من الميزات التي يعددها المرشدي عن الشيخ باشراحيل، أنه وبالرغم من تساقط أسنانه بسبب كبره، وتولعه الشديد بالقات والدخان (شرب التتن)، إلا أن تأديته للأغاني -رغم صعوبتها- كان يتم بسلاسة ووضوح لمخارج الكلمات، حتى إنّ الراغبين في كتابة الكلمات بعده لم يكونوا يجدون عناء في ذلك.
ياسين شواله
ياسين شواله

(*) منصة خيوط

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى