​الكاتب علوان الجيلاني: السرد أقدر على الوصول إلى القارئ

> صالح البيضاني

> الكتابة في أكثر من جنس أدبي قد توفر فضاءات أوسع أمام الكاتب للتجريب، وبينما يستقر الكثير من الكتاب في جنس معين بعد رحلة التجريب، يختار آخرون ترك المجال حرا أمام أقلامهم لاختيار الجنس الأدبي المناسب لكل فكرة. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الشاعر والناقد والروائي اليمني علوان مهدي الجيلاني حول التداخل الأجناسي في كتاباته ومشاريعه الأدبية.

لا يمكن الحديث عن المشهد الثقافي اليمني بعيداً عن اشتغالات الشاعر والروائي والناقد والباحث اليمني علوان مهدي الجيلاني، منذ 25 عاما إلى اليوم، شكل حضوره خلالها ظاهرة لافتة فهو في طليعة الشعراء، وهو ناقد الجيل، وهو الباحث في التصوف وفي التوثيق والدراسات الشفاهية، وهو الروائي أيضا.

معززاً بموسوعية استثنائية، وقدرة على التعدد أصدر الجيلاني 22 كتاباً، ونشر عشرات الدراسات وما يحتفظ به في أدراجه أكثر مما نشره، المواءمة بين غزارة الإنتاج والحرص على تمتع ما يكتبه بالجمع بين الأسلوب الفني العالي والمضامين الحافلة بالاكتشاف وإضاءة المناطق المعتمة ورفض نمطية التجنيس ونمطية الرؤية سمات بارزة في جميع اشتغالاته.

هدير السرد

الجيلاني أكثر من مجرد مشغول بعالم الأدب والثقافة، إذ كان من خلال كل عمل أدبي ينشره طوال مسيرته يؤكد على ضرورة أن تكون للمبدع بصمته الخاصة، ومشددا على ضرورة أن يكون للناقد والباحث هدف واضح المعالم يشتغل عليه.

في دواوينه الثمانية الصادرة بين عامي 1998 و2020، اختط لنفسه مسارا خاصا في الشعرية اليمنية المعاصرة وبين أبناء جيله، وفي دراساته النقدية وأبحاثه في التصوف والشفاهيات، وأقام مشروعه على أساس رفض التهميش ومقاومة التلاشي والبحث عن تجليات المكان وناسه. أما في مجال الرواية فإن كل تلك العناصر تتجمع فيما قدمه فيها، إذ يجمع عمله الروائي الضخم “أورفيوس المنسي”، الصادر في عام 2021 عن دار عناوين بوكس في القاهرة، بين الإبداع السردي المتخم بالشعرية، وبين رفض التهميش ومقاومة التلاشي التي كان بطل الرواية الموسيقار العبقري ناجي القدسي معرضاً لها. وليس بعيداً عن هذا المنحى اشتغاله في كتابه “الحضراني في الرمال العطشى” الصادر خلال الأيام القليلة الماضية.

وعن كتابيه الأخيرين يقول الجيلاني “كلاهما اشتغال على مبدع استثنائي، على شخصيتين نموذجيتين للكتابة عنهما في السياق الكلي لمشروعي، كان عليّ أن أستعيد ناجي القدسي من خلال السرد الروائي السيري، هو اختار ذلك وليس أنا، وقائع الحياة التي عاشها، طريقته العبقرية المذهلة في خلق موسيقاه، النجومية الصارخة التي تمتع بها في الثلث الأول من حياته، ثم الظلام الذي عاشه بقية حياته ظلما وحيفا وتهميشا وفقرا ومعاناة، لم يكن بوسعي أن أختار شكلا غير الرواية وأنا أكتب عنه”.

ويضيف “هدير السرد الذي سمعته منه، التفاصيل الصغيرة، قوة وحرارة استحضار لحظات تَخلق أعماله حين كان ينتجها قبل خمسين عاماً، أكثر من ذلك تلاشي الحدود والفواصل بين ما هو واقعي وخيالي في شخصيته، في تكوينه الثقافي وفي موهبته وبصمته الإبداعية، وفي وقائع حياته. سردية تتجمع فيها الفواجع والنجاحات، الوصف والحوار والمشاهد المتحركة والتأملات والنزق وانفلاتات التمرد، الفرح والجزع، المدهش الخارق للعادة والحقيقي المألوف في الحياة، اللغة الشعرية المحلقة والكلام العادي، نقاء الصوفي وحيرة الفيلسوف، ووجودية الإنسان الحديث”.

ويتابع “مع رواية ‘أورفيوس المنسي‘ حدث أني عشت ثلاث مرات أحاسيس لم أعرف مثلها في حياتي الأدبية كلها. إحساس الاكتشاف الأكثر أهمية حين كنت أوثق مادتها الخام من الموسيقار ناجي القدسي نفسه، وإحساس الإنجاز الإبداعي الكبير وأنا أشتغل على صياغتها النهائية. ثم إحساس التحقق الاستثنائي لحظة صدورها عن دار عناوين بوكس في نوفمبر عام 2021”.

وعن أحدث كتبه يضيف الجيلاني في حديث لـ”العرب” “إذا كان اشتغالي على الموسيقار العبقري ناجي القدسي لم يكن له مناص من التمركز في السرد مع الاستعانة بتقنيات الكتابة الأخرى كالشكل المقالي والعرض التاريخي والتوثيق الصحفي، فإن اشتغالي على الشاعر والمناضل الكبير إبراهيم الحضراني قد اختار التمركز في النقد والبحث الأدبيين مع الاستعانة بالسرد الروائي والتوثيق التاريخي، والتحقيق الصحافي، وهو ثمرة معاشرات طويلة للحضراني وشعره، وللبحث المضني عما ضاع منه. لكن الكليانية الحياتية بتجلياتها المختلفة كانت تفرض نفسها، بقدر ما فرضت شخصيته عليّ اللغة وسماتها التعبيرية والمعجمية”.

ويردف “لقد كان الحضراني قامة شعرية وطنية كبيرة، لكنه أكثر من ذلك كان قامة إنسانية مدهشة، وإذ كان يتهاون في ناحية حفظ نتاجه الشعري لأسباب غير وجيهة دائماً، فإنه كان يحفظ للآخرين قدماء ومحدثين ما لا يخطر على البال، كما أنه كان قارئاً يتمتع بروح وعقل منفتحين، وحين تضيف كل ذلك إلى تاريخه النضالي وتجاربه الحياتية ومفارقاتها الكثيرة التي امتدت على مدار 89 عاما. فإن طبيعة الكتابة العابرة للأنواع لا بد أن تفرض نفسها في حال الكتابة عنه”.

وعن مراحل إنجاز الكتاب يضيف “رغم أن 90 في المئة من مادة الكتاب تم إنجازها بعد رحيله نهاية عام 2007. إلا أن اختيار العنوان تم منذ عام 2002، أي بعد فترة بسيطة من بدء اقترابي العميق من تجربته. أريد أن أقول إن أسلوب الكتاب كان يجمع بين حلاوة السرد واللغة العالية ومقاربة التجربة من زوايا مختلفة، أعني أنني مثلما كتبت المادة الأولى وفي ذهني أن الحضراني سيقرأها وأن تجلياتي فيها يجب أن تكون في مستوى الكتاب الكبار الذين عشقهم وتيمته أساليبهم ومقارباتهم طوال حياته. فإني قد أكملت بقية الكتاب بعد رحيله بنفس الأسلوب، فقد كنت رغم رحيله أفكر أنه سيقرأه، وأن الكتاب يجب أن يملأ نفسه إعجاباً. حتى حين شاهدت صور الكتاب مطبوعاً تخيلته يقلب نسخه الأنيقة بين يديه ثم يميل بعنقه مبتسماً وعلى طريقته في التعبير يقول لقد أحسنت عناوين بوكس طباعته”.

عوالم روائية

حول القاسم المشترك بين تجربته في آخر كتابين له، أفردهما لعلمين من أعلام الفن والأدب في اليمن، يقول الجيلاني “الكتابان كلاهما؛ ‘أورفيوس المنسي‘ و‘الحضراني في الرمال العطشى‘ يقدمان تجربة عميقة باتجاه محاولة رفع الحيف ومقاومة التهميش والتلاشي، والكلام عنهما كثير جدا، يمكنني القول إنهما يمثلان بالنسبة إلي إنجازاً فارقاً، ولعل من حسن حظهما أن طريقة التسويق التي تنتهجها الدار الناشرة توفر لهما وصولاً إلى القارئ في كل مكان. فقد سعدت خلال الأشهر الماضية برسائل من أماكن مختلفة من العالم يخبرني مرسلوها بأنهم قرأوا رواية ‘أورفيوس المنسي‘ واستمتعوا بها. ولا أجمل عند الكاتب من أن يشعر بأن كتابه يصل إلى الناس، والفضل في هذا يعود دون شك إلى طريقة التسويق”.
لا أجمل عند الكاتب من أن يشعر بأن كتابه يصل إلى الناس، والفضل في هذا يعود إلى طريقة التسويق
لا أجمل عند الكاتب من أن يشعر بأن كتابه يصل إلى الناس، والفضل في هذا يعود إلى طريقة التسويق


وعن مشاريعه القادمة يتحدث الجيلاني في حواره مع “العرب” قائلا “لدي أعمال جاهزة للنشر منذ سنوات، لكن الأولوية لروايتي ‘معلامة‘، وهي جاهزة للنشر، أشعر بأنها قطعة من وجودي، وهناك أمر شبه يقيني يتعلق بما ستحصل عليه من التلقي الواسع، فقد خبرت ذلك من خلال نشر نماذج منها، إنها رواية تتميز بلغة خاصة، وأسلوب مميز في السرد، لعل المنطقة التي اشتغلتْ عليها الرواية وهي فترة طفولتي، قد منحت الرواية ميزة اكتناز البذور المعبرة عن كل ما سأكون عليه شاعراً وروائياً وناقداً وباحثاً في التصوف والشفاهيات، أظن أن نشرها سيتيح لي الاهتمام بأعمال أخرى ناجزة أو في حكم الناجزة”.

ويتابع “لا أريد سردها هنا، بل سأكتفي بذكر كتاب تواصل اشتغالي عليه خلال الأشهر الماضية، وأنا منهمك في وضع اللمسات الأخيرة عليه، هو كتاب ‘شجون الغريبة‘، وهو مقاربات وقراءات في قصيدة النثر وتجليات حضورها منذ مجلة شعر وحتى آخر استجاباتها لمواضعات الشبكة العنكبوتية، على وجه الخصوص موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. وفيها تتبعت تجارب يمنية وعربية من بلدان مختلفة. الكتاب يمثل تجربة مثيرة أظنها ستجد صدى واسعاً؛ بل إنها قد أنبأت بصداها خلال الفترة الماضية بما أحدثته من جدل وسجالات متكررة فيما كنت أنشر نماذج منها”.

وعما إذا كان يرى في الشكل السردي الروائي خياراً غالباً على كتاباته القادمة؛ يجيب الجيلاني إن هناك أربعة كتب سردية على الأقل يجب أن تتبع رواية “معلامة”، حيث أن مواضيع تلك الكتب تفرض هذا.

ويتابع “السرد أقدر على الوصول إلى القارئ من أشكال الكتابة الأخرى. وهناك إلحاح من أشخاص يقرأون لي وأنا أثق بهم، وهم يستحثون بشكل متواصل الروائي أن يوسع حضوره أضعافاً مضاعفة، وهناك حقيقة لا مناص من ذكرها، حقيقة الشغف الذي انعكس على كل من قرأوا رواية ‘أورفيوس المنسي‘ بدءًا من زوجتي التي قرأتها بجنون وأكملتها رغم ضخامتها في ثلاثة أيام متواصلة وهي تذرف الدموع، وهذا كان حال إخوتي يوسف ومهدي ومحمود وعادل وهم قراء يمتلكون دربة عالية ويمتلكون الحس النقدي أيضاً، نفس طريقة التلقي المحمومة والأصداء التي تصل إلى حد النجذاب عبر عنها أصدقاء في السودان وفي أميركا وفرنسا والخليج وتركيا ومصر”.

ويوضح الجيلاني أن احتمالية هذا المسار يفرضه أيضاً كون الرواية جنسا أدبيا لديه قدرة أكبر على استضافة سائر أشكال الكتابة، وجميع أنواع التعبير المكتوب، كما أن عوالمها تجذب القارئ النخبوي كما تجذب القارئ متوسط الثقافة والقارئ العادي أيضاً.

*العرب اللندنية*

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى