لم يخطر ببال أستاذنا الراحل هشام باشراحيل أن عندما استعاد أوضاع صحيفة والده ومنحها الحياة من جديد، أنها ستتحول إلى مخزن ثورة ورأي وفكر وروح تحيي عدن والجنوب كله.

لم يطرأ على باله هذا قطعا، بينما ما دار في خاطره يومذاك أن أقصى مدى أن تمتلئ وتثقل بالكتابة ويقبل عليها القراء، وتتحول إلى صحيفة تجاري الزمن الذي عادت إليه.

"الأيام" العدنية الأسبوعية أصبحت وجه عدن وصدرا واسعا لشكاوى أزمة الماء والرواتب، ونشر الخروقات الأمنية، وملاذًا لمن لا ملاذ له، ولم تكن مشروعا ورأيا صحفيا فقط.

وليس مثلما حدث حين جرفت البيروستريكا بسيلها الزعيم غرباشوف حين فتح حنفيتها، كان هنا العكس الإيجابي، فقد سجلت "الأيام" كل هيئة تحريرها ورئيسها وكتابها وأرغمتهم على أن تكون هي الجوهرة المضيئة وهم الراقصون كل ساعات اليوم وليله، وتحولت في فترة وجيزة إلى صحيفة نصف أسبوعية، ثم يومية وهي تسابق الزمن، وماذا فعلت في هذا السباق الغريب البديع؟

تحولت "الأيام" تحت إلحاح نفسها إلى استجابة لواقع مرير تمر به عدن وحضرموت وكل مدينة في الجنوب، فكانت هي المركز الحدث الذي تدور حوله كل الأحداث، وانقلبت إلى صحيفة تحمل أمانة الأمة في نقد النظام الحاكم وتجاوزاته وأكاذيبه بأقلام فاضت ونجحت وتعلمت مما تكتبه ومن حيوية ومساحة الحرية ومداها، وظهرت كتائب من المرتبطين بهذه الصحيفة، ناهيك عن كونها مثلت الخبر الذي يريده الناس ويبحثون عنه فيها فيما تحجبه الصحافة الرسمية، بل تعطي الرأي الذي يظهر مكتوبا من دون طبل ومن دون بوق ومن دون رقابة، وهذا كان أسمى ما مثلته وظاهرة نبيلة قلما وجدت في صحف عربية تحت أنظمة تعرف بالهيمنة الاستخبارية والسلطوية الساخنة.

خلقت "الأيام" لنفسها نهجا عميقا ثوريا راقيا ومتمكنا لا يشذ عن نهج العمل الصحفي، ولا يبالغ في التحليق بالفراغ، أو كما قال الشاعر الحضرمي: (يا اللي تناوط عالسماء وين السماء منك بعيد)، وتعاملت مع نفسها أولا ومع ما تتناوله في قضايا البلد كلها والنقد السياسي والاجتماعي بواقعية، ولا تخب جريا بقدر ما كانت تواكب هاجس الناس والدور الإيجابي.

تحولت هذه الصحيفة من جريدة ذات خبر وإعلان إلى مدرسة وقلعة عظيمة حولها كل الأصوات التي تبوح بما تقول الناس، وتئن لانتهاك الحقوق المدنية في عدن ولحج وجعار، وما يحدث من تقصير وقمع وحبس للمواطن وضياع حقوق وتسيب في المدارس وانفلات في معالجة قضايا الشعب والفقراء والنهب وسطو الأراضي ورصاص الأمن المركزي وعربدة العسكر.. إلخ.

كانت "الأيام" الحكاية وأتى إلينا الجنوب رويدا رويدا، وكنا نخاف أن نقول في حضرموت كنا سلطنة، قلناه في صحيفة "الأيام"، كنا نفزع من أن نتحدث عن عدن، وطرد الطيارين والعسكريين ما بعد حرب 1994م، كتبناه فيها وسقط خوفنا وازدادت جرأتنا وتوالت أقلامنا من الجنوب كله، وقلنا عن أزمة الجنوب في السودان حولنا العنوان بذكاء إلى الجنوب اليوم في العاصمة الخرطوم والسماء للطيور، وكتبنا عدن مدينة المتقاعدين، وحملت "الأيام" مقالات لا تخطر على بال أحد، وحينها كنا داخل الصحيفة نحن نقابة الصحفيين الجنوبيين ونحن جمعية حماية الصحفيين، وكنا من خلالها الاتحاد والموقف والتكتل الصحافي في حين غيب هذا وانعدم في الجنوب كله، وهنا شعرنا بأننا جنوبيون وجهرنا بها مبكرا وتداولناها وتعلمها الشارع والشباب، ولله درها فقد كانت تصنع هذا الجنوب حتة حتة وتلملم شتاتنا بما توفره لنا من سند وظهر وصدر حنون.

لـ "الأيام" الفضل الكبير قبل أن يدعي أحد إظهار الجنوب وإزاحة التراب الذي دفنه نظام صالح به، ونبشته ودفعت تضحيات غالية من أجل أن نراه ونقرأه ونتلفظ به فخرا، وهي للأمانة أول من جعل لنا اعتبارا كصحفيين جنوبيين وهي السباقة قولا وفعلا.

لـ "الأيام" قصة طويلة وهي تتحول من الجريدة إلى وطن، وتجعلك في مأمن من الخوف وقد فعلته لنا وهو ما جعلنا نفخر بأنها صاحبة الكلمة القوية والأولى.