المصالحة الوطنية الحقيقية وهيئة التشاور والتصالح

> عادةً قبل كل مصالحة لابد من إبداء حسن النوايا ولكن في حالة المصالحة هذه لم تكن حسن النية متوفرة، ما زال الجنوب ومع سبق الإصرار والترصد في دائرة الحصار الجائر، وهناك عشرات الألاف من العساكر والمدنيين بدون رواتب ولعدة أشهر، وهناك خدمات متدهورة والصيف القادم سيكون أشد حرارة فالحكومة الشرعية تكيل بمكيالين، بينما توافق على تمويل الانقلابيين بالرواتب لجميع موظفيه العسكريين والمدنيين من ثروات الجنوب، تقوم بحرمان الجنوبيين من حقهم في الراتب وتوفير الخدمات وهنا بدأ يساورني الشك في أن هذه الحكومة لا تحارب الحوثي، وإنما توجه حربها ضد الجنوب، والسؤال كيف هي الشراكة بين الانتقالي و حكومة تتلذذ في تعذيب شعب الجنوب؟ والمأساة أنها تنعم بالأمن والأمان بفضل النصر الذي حققه شعب الجنوب.

ما تقوم به هيئة المصالحة والتشاور اليوم يشوبه الغموض ولا يرتقي إلى إجراء مصالحة حقيقية على الإطلاق وقد شكلت بقرار من رئيس غادر المشهد في ظروف غامضة، وتم تعيين قوامها من موظفي الشرعية وهم جزء أساسي من الصراع الدائر مع إضافة عدد محدود من ممثلي الانتقالي وقوى أخرى وباختصار الغالبية يمثلون مراكز قوى كانت سببا في الأزمة والحرب فماذا تتوقع أن يكون نتاج عملها؟

المصالحة الحقيقية هي أن تبدأ بإعادة قراءة التاريخ بشكل منصف مع وضع ضوابط لسير الحياة، ورسم طريق اَمن للأجيال القادمة منها جبر الضرر وحل للمشاكل المزمنة، وفي حالة اليمن لابد من إعادة قراءة التاريخ بالنسبة لصنعاء منذ ما قبل عام 62،م وبالنسبة لعدن منذ ما قبل العام 63م وهما تاريخان منفصلان عن بعضهما البعض. ولا تصلح معالجة هذه الأمور بلجنة أو هيئة مشتركة إن أردنا الوصول إلى نتائج صحيحة. لهذا يفترض تشكيل هيئات منفصلة عن بعضها البعض بعيدا عن التاريخ المزيف، الذي كتبته الأنظمة أو الأحزاب التي كانت تقدم الأيدلوجيات والنظريات الوافدة عبر قنواتها الحزبية سواء كانت قومية أو دينية أو أيدلوحيات أخرى، وتقوم بإلباسها واقع المجتمعات في الشمال والجنوب. ومن المهم أن تتم إعادة قراءة التاريخ بما كان وكيفما كان عليه في تلك المجتمعات. وليس كما هو في مخيلات تلك الأحزاب حتى تستقيم الأوضاع دون حدوث هزات وانقلابات أو صراعات بينية قادمة.

لو عدنا للتجارب السابقة نجد أن هناك عداء كاملا وصريحا بين أية مصالحات حقيقية وبين الحكام السابقين، والذين حاولوا تجنب إجراء مصالحات حقيقية، ودخلوا في صفقات شخصية دون تسوية الملعب السياسي من الصراعات ومن الاستحقاقات الأخرى. وأكثر مثال على ذلك ما جرى للوحدة التي تمت دون أن تسبقها أية مصالحات أو إصلاحات داخلية في الجنوب ولا في الشمال. وكان يفترض أن تتم مصالحة داخلية في كل دولة قبل البدء في أي وحدة أو اتحاد بين الدولتين. ولكن رغبة القفز على الواقع كانت موجودة عند القيادات التي تصدرت الوحدة وكانت القفزة هائلة نحو المجهول بأن تمت الوحدة على أساس اندماجي وفقا للدستور، الذي تم شطب بعض مواده لتوافق ومزاج المندمجين في نشوة ساحرة ولحظات حميمية لم تستمر طويلا وبعدها كما يقول المثل ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، وكل منهم بدأ يعيد حساباته ولم يفلح إلا الذي كان مخطط مسبقا لما يريد أن يصل إليه وفشل من كان يعيش اللحظة الدرامية بعشوائية، وانتهت بانتهاء السكرة وأصبح يندب حظه التعيس، وصار ما صار وحتى الذي فكر بالاستحواذ على المشروع النهضوي الوحدوي الكبير، بواسطة الغدر والفهلوة وجد نفسه في نهاية المطاف يدفع ثمن تهوره وجشعه وجشع جماعته، التي أكلت الأخضر واليابس وأصبح وجودهم في الحكم لا يطاق وانتفض الشعب في الجنوب، ليقول كلمته بأن يرحل المحتل الشمالي من أرض الجنوب، وبعد حين انتفض الشباب في صنعاء ومدن أخرى ليقولوا ارحل، ولكن فرحتهم لم تتم حيث تم سرقة ثورتهم من أحزاب المشترك، التي دخلت في خط الثورة وتحولت إلى صراع مسلح بين قطبي الصراع في صنعاء مؤتمر وإصلاح وكانت النتيجة أن أتى مفارع من الشارع واستولى على الحكم بمساندة أحد طرفي الصراع، وتخاذل الطرف الآخر في الدفاع عن عاصمة البلاد وولى هاربا إلى الخارج، ودخلت البلاد والعباد في أتون حرب استمرت ثماني سنوات كان نتيجتها أن دخل الإقليم بكل تفاصيله وأيضا العالم كله.

مشكلة اليمن أنها تدخل في حوارات سطحية حول تقاسم السلطة فقد تحاور أثناء الأزمة الاشتراكي وتحالف الحكم في صنعاء بمشاركة القوى الوطنية الأخرى ووصلوا إلى أن أعدوا وثيقة سميت العهد والاتفاق، وتم توقيعها في الأردن تحت رعاية الملك حسين بن طلال، ولكن بعد أيام كانت بوادر الحرب قد بدأت ورميت الوثيقة في مزبلة التاريخ. وسميت وثيقة الخيانة من قبل الشمال المنتصر لأنه كان يشعر بأنه قوي، ويستطيع أن يكتسح الجنوب وكان له ما أراد ولو تمت مصالحات وإصلاحات حقيقية في الجنوب والشمال قبل الوحدة لما كانت هناك حرب في عام 94م.

في الحالة الأخرى كان هناك حوار آخر لمدة عام تحت إشراف إقليمي ودولي في صنعاء، ومجرد ما انتهى الحوار، إلا وبوادر الحرب قد بدأت وتشكلت تحالفات من نوع آخر وكلها تحالفات لإعادة تقاسم السلطة أدت إلى وجود طرف ثالث خارجي، دخل إلى اليمن من هذه البوابة الضيقة، لتصبح إيران جزء من الأزمة وتتباهى بأنها استولت على العاصمة العربية الرابعة، وكانت الحرب التي توجهت نحو الجنوب وما زالت الحرب على الجنوب قائمة رغم أن الجنوب قد حقق انتصارا يشهد له التاريخ، وأصبحت الحرب بمختلف مسمياتها العسكرية والإرهابية والاقتصادية والخدماتية، وتنفذ حتى اليوم على أرض الجنوب بينما انقلابيو صنعاء يحظون بالتفهم الكامل لأطراف دولية وإقليمية و شرعية، وتحولوا إلى طرف أساسي يقرر الحرب والسلام، والجميع يقوم بتلبية طلباته على أكمل وجه.

اليوم تتكرر عملية تشكيل هيئة التشاور والتصالح بهدف إعادة تموضع القوى السياسية في خارطة السلطة وليس للوصول إلى نتائج واقعية لحلول مشكلات هي سبب الأزمات والحروب لإرساء صروح ثابتة وآمنة للمستقبل.

وأغرب تصريح لهذه الهيئة يقول بأن بوابة السلام تاتي بعد هزيمة المشروع الإيراني في اليمن. واضح أن هذا التصريح لمجرد إلهاء الراي العام المحلي، و هذه الهيئة تعرف أن هناك مفاوضات تجري على قدم وساق مع القائمين على المشروع الإيراني بصنعاء بوساطة إقليمية ودولية وبمباركة الشرعية. منذ زمن السؤال عن أي هزيمة تتحدث هذه الهيئة؟ وهل تعلم أيضا هذه الهيئة بانه لا تجري أي تجهيزات عسكرية لمواجهة المشروع الإيراني على الأرض، السؤال كيف سيتم هزيمة هذا المشروع؟ وهل حصار الجنوب يأتي في سياق هزيمة المشروع الإيراني في اليمن؟ وأسئلة كثيرة مطروحة عليهم. الاعتراف بالواقع فضيلة ولحل ازمة الواقع الراهن لابد من الفصل بين الحالة الجنوبية والحالة الشمالية، فالجنوب تحرر وحقق انتصارات ولديه حامل سياسي يفترض أن تشكل هيئة جنوبية لإجراء مصالحة بين القوى السياسية المجتمعية، لإنتاج تحالف جنوبي يسمى جبهة وطنية أو أي مسمى يتفق عليه الجنوبيون يدير الوضع الجنوبي، وفي الأمر ذاته تشكل هيئة شمالية تجمع كل المتناقضات بين شرعية وقوات حرس جمهوري وقوات شرعية في مأرب يسيطر عليه حزب الإخوان المسلمون، وأي قوى أخرى ويشكلون جبهة موحدة وهم يقررون ماذا يريدون، هل يريدون التفاوض مع الحوثي؟ أو القتال؟ فالجنوب جاهز لدعمهم ويكون هناك تفاهمات حول الحل النهائي بعد ذلك بشكل ودي بين الجنوب والشمال، ولكن بعد أن نرى أن الشمال أصبح ندا للجنوب في المفاوضات القادمة، وطالما ما زال الشمال مشرذما بين قوى سياسية وعسكرية من جانب، وتسمي نفسها شرعية، وبين قوى طائفية سلالية تسمي نفسها أيضا شرعية، ونلاحظ التماهي بينهما على حساب الجنوب، لذا فالمدخل الصحيح لإجراء مصالحة أولا بين أطراف معسكر الشرعية وبعدها يتفقون على الطريق الذي سيسلكونه في التعامل مع الطرف الآخر في صنعاء، إما بالحرب أو بالسلم، وإما مواصلة الهيئة لعملها بطاقمها الحالي مع تناقص أهدافها، من الصعب جمعها في إطار هدف واحد حول أزمة السلطة، وخاصة وهي تعتمد على مرجعيات قد عفا عليها الزمن وقد تغيرت كثير من الوقائع على الأرض وخاصة بعد مارس 2015 وبعد ثماني سنوات من الحرب و تراجع المجتمع الدولي والإقليمي عن بعض المرجعيات، خاصة وهم يجرون مع الحوثي مفاوضات مباشرة وتتعامل معه كأمر واقع، فإذا كان الأمر كذلك فالجنوب المنتصر يحب أن يعتبر أمرا واقعا، والكرة الآن في ملعب الشرعية الشمالية المتشرذمة، والتي تتطلب تصالحا حقيقيا فيما بينها لكي تحسم أمرها، إما بالتفاوض سلما مع الحوثي أو حربا، وكلا الحالتين الجنوب جاهز لدعمها غير ذلك، فالاستمرار بهذه الطريقة، إنما هو مجرد ضحك على الذقون وضياع للوقت وإهدار للإمكانيات ولن ينتج عنه إلا مزيدا من الفشل إلا إذا كانت هناك أجندات أخرى غير معروفة فهذا شيء آخر. وبصراحة يفترض أن لا يرتبط الجنوب بهذا الفشل الذي نراه أمامنا فلتتوحد جهود الشماليين نحو استعادة عاصمتهم وجمهوريتهم بالسلم أو بالحرب كخطوة أساسية لإيجاد أرضية للتحاور بين الجنوب والشمال، فلا مجال لربط الجنوب بفشل الشمال وهذا هو الطريق الصحيح لتصحيح أخطاء الماضي.

من قرارات الهيئة المطالبة برفع العقوبات الدولية عن أحمد علي عبدالله صالح،دونا عن بقية المعاقبين علما بأن من طالب بإدراجه ضمن قائمة المعاقبين دوليا هي الشرعية ذاتها، وكان الأولى أن تطالب الهيئة الحكومة بدفع رواتب الجنود والموظفين الجنوبيين فورا، وكذا مطالبة الحكومة باتخاذ إجراءات لتحسين الخدمات الكهربائية في عدن.
خاص بـ "الأيام"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى