الوديعة المالية وأثرها في تحسين قيمة العملة المحلية

> تعيش البلاد شمالها وجنوبها، أوضاعا اقتصادية وسياسية كارثية، إذ شهدنا خلال الفترة وإلى يومنا هذا، انهيارا مستمرا للقيمة الشرائية للعملة المحلية، وارتفاعا جنونيا لأسعار السلع الغذائية وغيرها، وتفوّق تكاليف المعيشة على دخل الفرد، وعدم استطاعته تلبية متطلباته الأساسية، كما نشهد فشلًا ذريعا للسلطة التنفيذية في إدارة شؤون الدولة واقتصادها، وإعادة هيبة الدولة ومؤسساتها السيادية والمحلية، من خلال التطبيق الصارم للقوانين، ومحاسبة المخالفين لها، وتعديل القوانين واللوائح المالية، التي تشكل سببا رئيسيا للفساد وانتشاره في أجهزة ومؤسسات الدولة، والذي قضى على مميزاتها ومواردها بسبب هذه القوانين واللوائح المالية، من خلال إضفاء شرعية التصرف بالمال العام، والحصول على نسب كبيرة في الموازنات العامة لهذه المؤسسات والأجهزة تحت مسميات مختلفة، وتغطيتها بوسائل (فواتير) لا علاقة لها بمجالات صرفها، ولا تُسأل تلك الجهات أين صرفت تلك الأموال، ولا تتم الرقابة عليها عند تصفية عُهدها، أو عند تقديم تقاريرها عن الحسابات الختامية لموازنتها. كل ذلك فتج المجال أمام المسؤولين في هذه المؤسسات والأجهزة الحكومية، ليس فقط تبذير الأموال العامة، وإنما تجاوز ذلك في ابتكار وسائل جديدة لنهب المال العام، طالما أن رئاسة الحكومة ومجلسها لا يحاسب هؤلاء على ذلك العبث.

فضلًا عن ذلك نشأت العشرات بل مئات شركات الصرافة ومحلات الصرافة بتراخيص أو بدونها، شكّلت بديلًا عن البنوك الحكومية في إيداع الأموال العامة التابعة أو المملوكة لبعض مؤسسات الدولة، وفتح حسابات لها، بل والقيام بعمليات مالية كبيرة نيابة عنها، وسحب البساط من تحتها لإضعاف دورها المؤسسي في إدارة العمليات المالية والمحاسبية في هذه البنوك، وانتقال زمام المبادرة إلى هذه الشركات والمحلات الخاصة بالصرافة، الأمر الذي مكنها من التحكم بأسعار صرف العملة والتلاعب بها كيفما شاؤوا ومتى شاؤوا، لاستكمال إنهاء دور الدولة في إدارة المجتمع، إلا من نواحي بسيطة شكلية تدل على وجودها في المجتمع. وفي مقدمة هذه البنوك، البنك المركزي والبنك الأهلي، اللذان شلّت قدرتهما الفعلية في تطبيق السياسة المالية للدولة، والرقابة على العملة، والحفاظ على قيمتها في مقابل العملات الأجنبية، الأمر الذي أدى إلى انهيار العملة، وانهيار فعالية البنوك الحكومية، وانتقلت السلطة والقدرة على التحكم بالعملة إلى هذه الشركات والمحلات المختصة بالصرافة. كما أن خلو خزانة البنك المركزي من الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة (الدولار)، وخلوها أيضا من احتياطي الذهب الذي يغطي قيمة العملة المحلية، وتستمد منه قوّتها، وعدم قدرة البنك المركزي على إجبار شركات ومحلات الصرافة بإيداع أموالها لديه، وأيضاً إلزام التجار المستوردين للبضائع والسلع من الخارج الذين يملكون العملة الأجنبية والمحلية لتغطية عملية الاستيراد، بإيداع أموالهم في البنك المركزي لإدارة العمليات المالية الخاصة بذلك، والقيام بدور البنك المراسل أو البنك الضامن في هذه العمليات، كل ذلك الغش أنعكس على العملة المحلية وقيمتها الشرائية، التي انهارت إلى أدنى مستوياتها. ويعود ذلك إلى أسباب كثيرة يطول الحديث عنها، فضلًا عما ذكر أعلاه من أسباب، إلا أننا نورد بعضاً منها:

أولًا: عدم التزام الحكومة والسلطة السياسية، باتخاذ إجراءات عملية جادة، لإعادة الدور السيادي للبنك المركزي والبنوك الحكومية، وسحب البساط من تحت أقدام الشركات والبنوك الخاصة ومحلات الصرافة، بشأن السيطرة والتحكم بالوضع المالي وقيمة العملة المحلية.

ثانياً: عدم منع المؤسسات الحكومية وأجهزة الدولة المختلفة، من إيداع المال العام في الشركات والبنوك الخاصة، وفي محلات الصرافة، وإلزامها بإعادة إيداعها في البنك المركزي والبنك الأهلي.

ثالثاً: عدم إلزام الشركات والبنوك الخاصة ومحلات الصرافة، بإيداع أموالها لدى البنك المركزي، وكذا جميع التجار المستوردين للبضائع والسلع بإيداع أموالهم في البنك المركزي وإجراء العمليات المالية والبنكية الخاصة بالتوريد عبره.

رابعاً: تحويل رواتب أعضاء السلطة العليا ورئاسة الوزراء والوزراء ونواب الوزراء والوكلاء، إلى العملة الصعبة، بأسعار الصرف قبل الحرب، وبألاف الدولارات، الأمر الذي يرهق ميزانية الدولة ويستنزف الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة.

خامساً: قيام البنك المركزي ببيع العملة الصعبة من الاحتياطي النقدي الأجنبي وبأسعار تنافس أسعار السوق بواسطة المزاد وعبر المنصة الالكترونية، دون أُسس ومعايير صحيحة بدلًا عن اتخاذ إجراءات أخرى تحافظ على مخزونه من النقد الأجنبي. وعلى الرغم من هذا الإجراء إلا أنه انعكس سلباً على قيمة العملة المحلية وزادها تدهوراً أكبر.

سادساً: وجود بعض المسؤولين في البنك المركزي، يمتلكون الخبرة في إجراء العمليات المالية التي تتسم بالتلاعب، لإضعاف دور البنك المركزي، وتقوية دور الشركات المالية والبنوك الخاصة في أخذ زمام الأمور في التحكم في الشأن المالي والسياسة المالية للدولة، لتقوية مصالحهم ومصالح المشاركين لهم في هذا التلاعب.

سابعا: بند الرواتب بالعملة الصعبة، لقيادة البنك المركزي والموظفين الكبار فيه، يستنزف جزءا كبيرا من احتياطي الدولة منم هذه العملة، ويجعل البنك عاجزا عن دعم قيمة العملة المحلية وتعزيز قوتها الشرائية.

ثامناً: عدم قدرة الدولة على حماية المنشآت النفطية وموانئ تصدير النفط والغاز، وجعلها عرضة لنيران قوات الانقلاب الحوثية، وعدم اتخاذ أي معالجات أخرى، أفقد الدولة مصدرا من مصادر الدخل القومي من العملة الصعبة، لبناء احتياطي من النقد الأجنبي، يغطي العمليات المالية لمؤسسات الدولة والتجار في عملية استيراد السلع والمواد الأساسية الضرورية لاحتياجات المجتمع، فضلًا عن تشجيع وتنظيم عملية التصدير للمنتجات المحلية إلى دول الجوار، للحصول على مصادر النقد الأجنبي، وعدم الاستفادة من تحويلات المغتربين اليمنيين في الخارج إلى داخل البلد، والتي تقدر بملايين الدولارات، والتي في الأصل تذهب إلى شركات الصرافة والبنوك الخاصة، دون رقابة أو سيطرة من قبل البنك المركزي.

كل تلك العوامل والأسباب أدت إلى ضعف اقتصاد الدولة وتدهور الحياة المعيشية للمواطن بسبب قلة الدخل، وانخفاض القيمة الشرائية للعملة المحلية، وارتفاع تكاليف المعيشة.

وعليه، فإن إيداع أي أموال بالعملة الصعبة، الدولار أو غيره، دون معالجة تلك الأسباب، وعودة الدور القيادي للبنك المركزي والبنوك الحكومية لتنفيذ السياسة المالية للدولة وفق الأسس والمعايير القانونية الصحيحة، لن يؤتي أَكله، وإنما هو مجرد ضحك على الذقون، وجوقة إعلامية وهمية حول دور الوديعة المالية بتحسين الاقتصاد الوطني وتحسين ظروف معيشة المواطن، ودون وجود احتياطي نقدي كبير من العملة الصعبة واحتياطي الذهب لن يطرأ أي تحسُّن، بل قد يزداد الوضع سوءًا بمجرد بدء الصرف العشوائي من هذه الوديعة والتلاعب بطرق ووسائل الصرف منها، وسيظل التحكّم بقيمة العملة المحلية بيد شركات الصرافة والبنوك الخاصة، بما يلبي مصالحها وليس مصالح المواطنين و الوطن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى