> عبدالله البيتي
يعدّ وادي "حَجْر" من أهم الأودية الزراعية في شبه الجزيرة العربية، وأبرزها في اليمن، وهو واحد من أودية حضرموت الكبرى، وينحدر من أعالي الهضبة الجنوبية الغربية لمحافظة حضرموت باتجاه البحر العربي، بمساحة حوض تبلغ (10,000 كيلو متر مربع)، وتجري فيه المياه طوال العام منتهيةً إلى ميفع على ساحل البحر العربي. ولذا فهو وادٍ زراعيٍّ خصيبٍ، يعمل معظم سكانه البالغ عددهم حوالي (34,932 نسمةً) في الزراعة، حيث تزرع أراضيه السهلية على جانبي مجراه بأنواع مختلفة ومتعدّدة من: الحبوب، الفاكهة، الخضار، وأشجار النخيل.
ولأنّ المتطلبات البيئية لشجرة النخيل تتطابق بشكلٍ كبير مع الظروف المناخية لوادي حجر، فقد أصبح أهم وأكثر منتجات الوادي من التمور، حتّى سُمَّيَ بـ(وادي الثلاثة مليون نخلة)؛ نظرًا لما تشكّله فيه أشجار ومزارع النخيل من غطاء نباتي كثيف أخضر اللون. بل إنَّ تمره لجودته العالية نُسِبَ إليه، فأُطلِقَ عليهِ (التمر الحجري). وله أنواع عدّة أكثرها انتشارًا وزراعةً، هو: (السُّقطري)، والذي يتمتّع بشهرةٍ وشعبيةٍ كاسحةٍ في كل اليمن، كما يُصدّر منه للخارج أيضًا.
وفي موسم حصاد التمور السنوي في الوادي، والممتد لثلاثة أشهر تقريبًا، يبدأ في يونيو وينتهي في أغسطس، تُباع التمور، بأسعارٍ متفاوتةٍ، ويذهب جزء كبير منها إلى المصانع ومعامل التمور التي تحرص على شراء كميات منه؛ لبيعه لاحقًا. وتصل كمية الإنتاج من التمور في الموسم الواحد في الوادي إلى حوالي (47,062 طنًّا متريًّا)، وفقًا لبيانات إدارة الإحصاء والمعلومات بوزارة الزراعة اليمنية.
ماذا حدث؟
في صبيحة الثالث من يونيو 2020، ضرب منخفضٌ جويّ مداريّ قويّ أجزاءً من جنوب اليمن وسُقطرى، بالإضافة إلى عدد من مديريات محافظة حضرموت، ومنها مديرية حجر (غرب مدينة المكلا عاصمة المحافظة، وتبعد عنها بحوالي 157 كيلو مترًا). استفاقَ يومها أهالي المديرية التي تبلغ مساحتها (1,741 كيلو مترًا مُربعًا) مصدومين من شدّة ما أصابهم وحلّ بهم، وقد تضررت بشكلٍ غير مسبوق بيوتهم ومزارعهم ومواشيهم وممتلكاتهم، جرّاء عواصف رعديّة عاتية هبّت، وأمطار غزيرة سقطت لأكثر من يوم ونصف، تبعتها سيولٌ جارفة متدفقة خلّفت خسائر فادحة.
أبرز هذه الخسائر هي الانهيار الكامل والتّام لمنظومة قنوات الري الزراعية، المعروفة محليًّا بـــ(السَّواقي والعُتوم)، والسدود التابعة لها، والتي أنشِئت في ثمانينيات القرن الماضي، وبواسطتها يتم ري المزارع وأشجار النخيل البالغ عددها -وفقًا لإحصائيةٍ رسميةٍ تعود للعام 2004- (3,000,000 نخلة) منتشرةً على طول الوادي البالغ (200 كيلو متر).
حجم الكارثة
اليوم، ومع مرور ثلاث سنوات كاملة على هذه الكارثة، فإنّ أضرارها ما زالت ماثلةً للعيان، وربما أشدّها فداحةً موت (15,000 نخلة)، بحسب إحصائية حصلت عليها "خيُوط"، من محـمد بانوبي، مدير مكتب وزارة الزراعة والري بالمديرية. مبيّنًا أنّ السبب يعود إلى "تدمّر منظومة قنوات ري مزارع النخيل بشكلٍ كُلّي، بفعل هذا المنخفض الجوّي القوي والمفاجئ الذي ضربَ المديرية". حتى بات المشهد في الوادي عبارة عن مساحات جرداء شاسعة بها جذوع نخلٍ خاوية مرميةً على الأرض، وأخرى منتصبة لكنها بلا روح، وثالثة فقدت رؤوسها كأنّها في مقصلة الإعدام، وسعفُ نخيلٍ فقدَ لونه الأخضر، ومالَ إلى الاصفرار.
د. خالد باواحدي، مدير مركز الدراسات البيئية والموارد المائية بجامعة حضرموت، يرى أن: "موت هذا العدد المهول من النخيل خسارةً كبيرة، خصوصًا أنّه يمكن أن يلعب دورًا هامًّا في التوازن البيئي، نظرًا لخاصيته الكبيرة في النمو. كما أنّه من أكبر الأشجار حجمًا، ولذا فإنّ سحبه لكميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون من الجوّ من أهم مميزاته، والتي تجعل له أفضليّة المساهمة في حل مشكلة الاحتباس الحراري وتغيرات المناخ التي باتَت شبحًا يُؤرِّق العالم برمته".
أمّا المُزارع حسين الشاذلي (35 سنة)، فيتحدّث عن هذه المعاناة، قائلًا: "أصبحت الساقية اليوم بحاجة إلى إصلاح من جديد بعد أن جرفت جزءًا وطمرت آخرَ منها، السيولُ، وبسببها أيضًا فقدنا الكثير من أشجار النخيل، والمانجو، وأنواع الحبوب. بل انجرفت حتى أراضينا الزراعية، وأصبحت بحاجة ماسّة إلى استصلاح لتعود لسابق عهدها".
مبادرات غير مدعومة
ويؤكّد الشاذلي بأن المبادرات التي تتم بين وقت وآخر من قبل المزارعين أنفسهم في محاولاتهم إصلاح قنوات الري الخاصة بهم، باتت صعبةً جدًّا، لأنّ حجم الضرر باتَ كبيرًا، وفاقَ قدراتهم البشرية كمزارعين، يعملون بأيديهم وأدواتهم الزراعية البدائية، ولا بدّ من تدخُل عاجل ومدروس تشترك فيه السلطات المحلية، والمنظمات المحلية والدولية، وإن لم يتم هذا التدخل بشكلٍ سريعٍ سيستمر استنزاف أشجار النخيل يومًا بعد آخر، وموت آلاف مؤلفة أخرى منه.
ويشرح المزارع عمر هادي (48 سنة)، الذي قضى 23 سنةً منها في زراعة النخيل، ما حصلَ، فيقول: "ماتت الكثير من أشجار النخيل الخاصة بي، فخلال الثلاث السنوات الأخيرة انقطعت مياه الرّي تمامًا عن مزارعنا. والمعروف بأن شجرة النخيل أو أي شجرة أخرى تحتاج لكميات كافية من المياه لنموّها وبقائها على قيد الحياة، حاولنا إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، لكن ذلك كان دون جدوى، فقد كان الأمر صعبًا للغاية، وبحاجة لإمكانيات كبيرة لا نملكها كمزارعين".
ويُشير عمر بحسرةٍ بالغةٍ، وهو ينظر إلى حقله المحروق أمامه، قائلًا: "انظر، لقد تحوّل هذا الحقل إلى صحراء قاحلة جرداء، وقد كان يومًا واحةً غنّاء، زَرعتُ فيه ما لذَّ وطاب لي من أشجار النخيل، وأصنافِ الحبوب المختلفة، والخُضار والفاكهة. بالله عليك من يتحمّل مسؤولية هذا الظُّلم والجور؟!".
تدخلات فاشلة
تعتمد زراعة النخيل في الوادي على المياه الجوفية (مياه العيون)، إلى جانب مياه السيول المتدفقة من الوديان عند هطول الأمطار عبر قنوات الري المتعدّدة والتي أنشِئت لهذا الغرض، لكنها جميعها تدمّرت جرّاء المنخفض، وهو ما جعل عددًا من المنظمات المحلية والدولية تُكثِّف تدخلاتها في هذا الجانب، لعلها تساهم في السيطرة على هذه الكارثة، ولذا فمنها من قامت بإجراء إصلاحات على السواقي والقنوات، وأخرى قامت بإعادة تأهيل عددٍ من السدود.
لكنّ المزارعين والأهالي يؤكّدون بأن مُجمل هذه التدخلات "كانت فاشلة"، ويرجعون سبب ذلك إلى عدم استشارة أهل الخبرة منهم في هذا المجال، وعدم إشراكهم في وضع ورسم كيفيّة ونوع التدخلات، بالإضافة إلى عدم تنفيذ هذه التدخلات وفقًا لدراسات هندسية ميدانية صحيحة لحلّ المشكلة من جذورها، ممّا جعل أغلب هذه التدخلات تتسم بأنها "ترقيعية آنيّة، سُرعان ما تنهار عند أول تجربة واختبار لها، وذلك بمرور أصغر السيول عبرها فيدمّرها مرةً أخرى وكأنها لم تكُن من قبل".
السلطات المحلية بالمديرية تتفق هي الأخرى مع الأهالي والمزارعين في هذا الطرح، وعدم تحقُّق الجدوى الفِعليَّة من تدخلات كثيرٍ من المنظمات المحلية والدولية، وتُحمّل في الوقت نفسه هذه المنظمات المتدخلة سبب هذا الفشل، مُبرِّرةً ذلِكَ بعدم إشراكها في تنفيذ هذه المشاريع، والتنسيق لها، والإشراف عليها عبر مكاتبها التنفيذية المختصة.
هجرة قسرية
وليد بن دغار، رئيس اللجنة الزراعية بمنطقة الحصين وضواحيها، أكّدَ أيضًا، بأن التدخلات التي تمّت في ساقية منطقة الحصين كانت بسيطة، ما إن انتهت المنظمات من تدخلاتها فيها حتى تدفقت عليها السيول وجرفتها، وأعادتهم إلى نفس المربع الأول من المعاناة بعد انهيار ساقيتهم مرةً أخرى. وهو ما انعكسَ سلبًا بموت المزيد من أشجار النخيل، وتوقّف الزراعة؛ نظرًا لانقطاع المياه.
طارق محسن (59 سنة)، هو الآخر يتحدّث لــ"خيُوط"، عن هذه التدخلات بقوله: "عند أول تدخُل تم لإصلاح هذه السواقي بعد مرور حوالي سنة ونصف على الكارثة، استبشرنا خيرًا، لكن للأسف جاءت السيول وجرفت كل الإصلاحات الهشّة التي تمّت، ممّا جعلنا نفقد محصول سنة كاملة، ويذهب كل جهدنا أدراج الرياح. وانعكس هذا بدوره على تربية مواشينا التي لم تجد ما تأكله من زراعة هذه الأراضي، وفي المحصلة فقد خسرنا الكثير. وهو ما أدّى بكثير من المزارعين لترك العمل في الزراعة والهجرة إلى المدينة؛ للبحث عن أعمال أخرى؛ من أجل كسب لقمة العيش".
ويؤكّد ماطر عبدالله (33 سنة)، وجود هذه الهجرة القسريَّة المُرَّة وهو من أهالي الوادي، وكيف ترك الزراعة، وتوجّه للعمل في مدينة المكلا، في أعمال البناء والتشييد والطِّلاء، بقوله: "أنا رب لأسرة، كان عليّ أن أفكّر في طريقة أستطيع من خلالها تأمين لقمة العيش لزوجتي وأولادي. العمل في النخيل وزراعته بات من الماضي، لأنه انتهى كل شيء في هذه الكارثة التي حصلت".
ويختم ماطر والعَبْرَةُ تخنقه: "تحتفظ ذاكرتي بأسماء لكثير من أهالي الوادي الذين أعرفهم حقّ المعرفة، وقد تركوا الوادي والعمل فيه، وهاجروا، بعد أن ماتت أموالهم من النخيل، راحوا يعملون كمزارعين يتقاضون أجرًا مقابل ذلك في مزارع نخيل يملكها أناس آخرون في مناطق وادي حضرموت، كـ: دوعن، وحورة، ووادي العين".
الوادي المنسي
كانت الزراعة التي ورثها صالح علي (39 سنة)، كابرًا عن كابِر عن آبائه وأجداده، مصدر الرزق الوحيد له ولعائلته، ولا تزال كذلك حتى اليوم. ويعمل صالح معظم ساعات النهار في أرضه، يزرع أنواعًا من الخضار والفاكهة التي يبيع محصولها بشكلٍ يوميّ، ويقتات من عائدها هو وعائلته المكونة من أربعة أشخاص.
يتحدّث صالح عن رغبة جامحة كانت تتملكه في زمنٍ مضى لزراعة أصناف عدّة من أشجار النخيل، لكنه أحجم بسبب وضع المديرية "المُزري" كما يصفه، ملخصًا هذه المعاناة بغصّة بدت واضحة عليه، قائلًا: "الحكومة نست وادي حجر تمامًا، ونست مُزارعيها ونخيلنا، للأسف، مرّت هذه الكارثة ولم يزرنا حتى مسؤول، لا أحد سأل عنا حتى مجرد سؤال، ولن يفعلوا ذلك بالتأكيد، فنحن المنسيون، في مديرية منسية!".
ويُجمِل محـمد بانوبي، مدير مكتب الزراعة والري بالمديرية، أبرز التدخلات التي قامت بها السلطة المحلية؛ للتخفيف من آثار هذه الكارثة على المزارعين، والمتمثلة في إصلاح بعض الحواجز والقنوات المائية الترابية، وتوفير المعدات للعملِ فيها. إلّا أنّ المزارعين يرون بأن هذه التدخلات خجولة، وجاءت على استحياء، وغير كافية مطلقًا، ولا ترقى ولا تليق بحجم وإمكانيات السلطة المحلية للمديرية، التي كانت تُشاهِد ليل نهار ثروةً وطنيةً تموت بالآلاف أمامها دون أن تُحرِّك ساكِنًا.
لسان حال كل الأهالي، بمن فيهم المزارعون، يؤكّد بأنّ هذا الإهمال والنسيان من قبل الحكومة للمديرية وأهلها "ليس وليد اللحظة، بل هو عملية تراكمية عايشوها سنينًا امتدت منذ العام 2007، عندما ضرب إعصار غونو المداري المديرية، وبعده تشابالا الاستوائي في 2015، مرورًا بإعصار لبان في العام 2018"، والتي خلّفت أضرارًا كبيرة على كلّ الأصعدة، لا سيما بالزراعة والمزارعين، "لكنّ أحدًا لم يلتفت لهم ولا إلى معاناتهم المضاعفة"، كما يقولون.
"خيوط"
ولأنّ المتطلبات البيئية لشجرة النخيل تتطابق بشكلٍ كبير مع الظروف المناخية لوادي حجر، فقد أصبح أهم وأكثر منتجات الوادي من التمور، حتّى سُمَّيَ بـ(وادي الثلاثة مليون نخلة)؛ نظرًا لما تشكّله فيه أشجار ومزارع النخيل من غطاء نباتي كثيف أخضر اللون. بل إنَّ تمره لجودته العالية نُسِبَ إليه، فأُطلِقَ عليهِ (التمر الحجري). وله أنواع عدّة أكثرها انتشارًا وزراعةً، هو: (السُّقطري)، والذي يتمتّع بشهرةٍ وشعبيةٍ كاسحةٍ في كل اليمن، كما يُصدّر منه للخارج أيضًا.
وفي موسم حصاد التمور السنوي في الوادي، والممتد لثلاثة أشهر تقريبًا، يبدأ في يونيو وينتهي في أغسطس، تُباع التمور، بأسعارٍ متفاوتةٍ، ويذهب جزء كبير منها إلى المصانع ومعامل التمور التي تحرص على شراء كميات منه؛ لبيعه لاحقًا. وتصل كمية الإنتاج من التمور في الموسم الواحد في الوادي إلى حوالي (47,062 طنًّا متريًّا)، وفقًا لبيانات إدارة الإحصاء والمعلومات بوزارة الزراعة اليمنية.
ماذا حدث؟
في صبيحة الثالث من يونيو 2020، ضرب منخفضٌ جويّ مداريّ قويّ أجزاءً من جنوب اليمن وسُقطرى، بالإضافة إلى عدد من مديريات محافظة حضرموت، ومنها مديرية حجر (غرب مدينة المكلا عاصمة المحافظة، وتبعد عنها بحوالي 157 كيلو مترًا). استفاقَ يومها أهالي المديرية التي تبلغ مساحتها (1,741 كيلو مترًا مُربعًا) مصدومين من شدّة ما أصابهم وحلّ بهم، وقد تضررت بشكلٍ غير مسبوق بيوتهم ومزارعهم ومواشيهم وممتلكاتهم، جرّاء عواصف رعديّة عاتية هبّت، وأمطار غزيرة سقطت لأكثر من يوم ونصف، تبعتها سيولٌ جارفة متدفقة خلّفت خسائر فادحة.
أبرز هذه الخسائر هي الانهيار الكامل والتّام لمنظومة قنوات الري الزراعية، المعروفة محليًّا بـــ(السَّواقي والعُتوم)، والسدود التابعة لها، والتي أنشِئت في ثمانينيات القرن الماضي، وبواسطتها يتم ري المزارع وأشجار النخيل البالغ عددها -وفقًا لإحصائيةٍ رسميةٍ تعود للعام 2004- (3,000,000 نخلة) منتشرةً على طول الوادي البالغ (200 كيلو متر).
حجم الكارثة
اليوم، ومع مرور ثلاث سنوات كاملة على هذه الكارثة، فإنّ أضرارها ما زالت ماثلةً للعيان، وربما أشدّها فداحةً موت (15,000 نخلة)، بحسب إحصائية حصلت عليها "خيُوط"، من محـمد بانوبي، مدير مكتب وزارة الزراعة والري بالمديرية. مبيّنًا أنّ السبب يعود إلى "تدمّر منظومة قنوات ري مزارع النخيل بشكلٍ كُلّي، بفعل هذا المنخفض الجوّي القوي والمفاجئ الذي ضربَ المديرية". حتى بات المشهد في الوادي عبارة عن مساحات جرداء شاسعة بها جذوع نخلٍ خاوية مرميةً على الأرض، وأخرى منتصبة لكنها بلا روح، وثالثة فقدت رؤوسها كأنّها في مقصلة الإعدام، وسعفُ نخيلٍ فقدَ لونه الأخضر، ومالَ إلى الاصفرار.
د. خالد باواحدي، مدير مركز الدراسات البيئية والموارد المائية بجامعة حضرموت، يرى أن: "موت هذا العدد المهول من النخيل خسارةً كبيرة، خصوصًا أنّه يمكن أن يلعب دورًا هامًّا في التوازن البيئي، نظرًا لخاصيته الكبيرة في النمو. كما أنّه من أكبر الأشجار حجمًا، ولذا فإنّ سحبه لكميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون من الجوّ من أهم مميزاته، والتي تجعل له أفضليّة المساهمة في حل مشكلة الاحتباس الحراري وتغيرات المناخ التي باتَت شبحًا يُؤرِّق العالم برمته".
أمّا المُزارع حسين الشاذلي (35 سنة)، فيتحدّث عن هذه المعاناة، قائلًا: "أصبحت الساقية اليوم بحاجة إلى إصلاح من جديد بعد أن جرفت جزءًا وطمرت آخرَ منها، السيولُ، وبسببها أيضًا فقدنا الكثير من أشجار النخيل، والمانجو، وأنواع الحبوب. بل انجرفت حتى أراضينا الزراعية، وأصبحت بحاجة ماسّة إلى استصلاح لتعود لسابق عهدها".
مبادرات غير مدعومة
ويؤكّد الشاذلي بأن المبادرات التي تتم بين وقت وآخر من قبل المزارعين أنفسهم في محاولاتهم إصلاح قنوات الري الخاصة بهم، باتت صعبةً جدًّا، لأنّ حجم الضرر باتَ كبيرًا، وفاقَ قدراتهم البشرية كمزارعين، يعملون بأيديهم وأدواتهم الزراعية البدائية، ولا بدّ من تدخُل عاجل ومدروس تشترك فيه السلطات المحلية، والمنظمات المحلية والدولية، وإن لم يتم هذا التدخل بشكلٍ سريعٍ سيستمر استنزاف أشجار النخيل يومًا بعد آخر، وموت آلاف مؤلفة أخرى منه.
ويشرح المزارع عمر هادي (48 سنة)، الذي قضى 23 سنةً منها في زراعة النخيل، ما حصلَ، فيقول: "ماتت الكثير من أشجار النخيل الخاصة بي، فخلال الثلاث السنوات الأخيرة انقطعت مياه الرّي تمامًا عن مزارعنا. والمعروف بأن شجرة النخيل أو أي شجرة أخرى تحتاج لكميات كافية من المياه لنموّها وبقائها على قيد الحياة، حاولنا إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، لكن ذلك كان دون جدوى، فقد كان الأمر صعبًا للغاية، وبحاجة لإمكانيات كبيرة لا نملكها كمزارعين".
ويُشير عمر بحسرةٍ بالغةٍ، وهو ينظر إلى حقله المحروق أمامه، قائلًا: "انظر، لقد تحوّل هذا الحقل إلى صحراء قاحلة جرداء، وقد كان يومًا واحةً غنّاء، زَرعتُ فيه ما لذَّ وطاب لي من أشجار النخيل، وأصنافِ الحبوب المختلفة، والخُضار والفاكهة. بالله عليك من يتحمّل مسؤولية هذا الظُّلم والجور؟!".
تدخلات فاشلة
تعتمد زراعة النخيل في الوادي على المياه الجوفية (مياه العيون)، إلى جانب مياه السيول المتدفقة من الوديان عند هطول الأمطار عبر قنوات الري المتعدّدة والتي أنشِئت لهذا الغرض، لكنها جميعها تدمّرت جرّاء المنخفض، وهو ما جعل عددًا من المنظمات المحلية والدولية تُكثِّف تدخلاتها في هذا الجانب، لعلها تساهم في السيطرة على هذه الكارثة، ولذا فمنها من قامت بإجراء إصلاحات على السواقي والقنوات، وأخرى قامت بإعادة تأهيل عددٍ من السدود.
لكنّ المزارعين والأهالي يؤكّدون بأن مُجمل هذه التدخلات "كانت فاشلة"، ويرجعون سبب ذلك إلى عدم استشارة أهل الخبرة منهم في هذا المجال، وعدم إشراكهم في وضع ورسم كيفيّة ونوع التدخلات، بالإضافة إلى عدم تنفيذ هذه التدخلات وفقًا لدراسات هندسية ميدانية صحيحة لحلّ المشكلة من جذورها، ممّا جعل أغلب هذه التدخلات تتسم بأنها "ترقيعية آنيّة، سُرعان ما تنهار عند أول تجربة واختبار لها، وذلك بمرور أصغر السيول عبرها فيدمّرها مرةً أخرى وكأنها لم تكُن من قبل".
السلطات المحلية بالمديرية تتفق هي الأخرى مع الأهالي والمزارعين في هذا الطرح، وعدم تحقُّق الجدوى الفِعليَّة من تدخلات كثيرٍ من المنظمات المحلية والدولية، وتُحمّل في الوقت نفسه هذه المنظمات المتدخلة سبب هذا الفشل، مُبرِّرةً ذلِكَ بعدم إشراكها في تنفيذ هذه المشاريع، والتنسيق لها، والإشراف عليها عبر مكاتبها التنفيذية المختصة.
هجرة قسرية
وليد بن دغار، رئيس اللجنة الزراعية بمنطقة الحصين وضواحيها، أكّدَ أيضًا، بأن التدخلات التي تمّت في ساقية منطقة الحصين كانت بسيطة، ما إن انتهت المنظمات من تدخلاتها فيها حتى تدفقت عليها السيول وجرفتها، وأعادتهم إلى نفس المربع الأول من المعاناة بعد انهيار ساقيتهم مرةً أخرى. وهو ما انعكسَ سلبًا بموت المزيد من أشجار النخيل، وتوقّف الزراعة؛ نظرًا لانقطاع المياه.
طارق محسن (59 سنة)، هو الآخر يتحدّث لــ"خيُوط"، عن هذه التدخلات بقوله: "عند أول تدخُل تم لإصلاح هذه السواقي بعد مرور حوالي سنة ونصف على الكارثة، استبشرنا خيرًا، لكن للأسف جاءت السيول وجرفت كل الإصلاحات الهشّة التي تمّت، ممّا جعلنا نفقد محصول سنة كاملة، ويذهب كل جهدنا أدراج الرياح. وانعكس هذا بدوره على تربية مواشينا التي لم تجد ما تأكله من زراعة هذه الأراضي، وفي المحصلة فقد خسرنا الكثير. وهو ما أدّى بكثير من المزارعين لترك العمل في الزراعة والهجرة إلى المدينة؛ للبحث عن أعمال أخرى؛ من أجل كسب لقمة العيش".
ويؤكّد ماطر عبدالله (33 سنة)، وجود هذه الهجرة القسريَّة المُرَّة وهو من أهالي الوادي، وكيف ترك الزراعة، وتوجّه للعمل في مدينة المكلا، في أعمال البناء والتشييد والطِّلاء، بقوله: "أنا رب لأسرة، كان عليّ أن أفكّر في طريقة أستطيع من خلالها تأمين لقمة العيش لزوجتي وأولادي. العمل في النخيل وزراعته بات من الماضي، لأنه انتهى كل شيء في هذه الكارثة التي حصلت".
ويختم ماطر والعَبْرَةُ تخنقه: "تحتفظ ذاكرتي بأسماء لكثير من أهالي الوادي الذين أعرفهم حقّ المعرفة، وقد تركوا الوادي والعمل فيه، وهاجروا، بعد أن ماتت أموالهم من النخيل، راحوا يعملون كمزارعين يتقاضون أجرًا مقابل ذلك في مزارع نخيل يملكها أناس آخرون في مناطق وادي حضرموت، كـ: دوعن، وحورة، ووادي العين".
الوادي المنسي
كانت الزراعة التي ورثها صالح علي (39 سنة)، كابرًا عن كابِر عن آبائه وأجداده، مصدر الرزق الوحيد له ولعائلته، ولا تزال كذلك حتى اليوم. ويعمل صالح معظم ساعات النهار في أرضه، يزرع أنواعًا من الخضار والفاكهة التي يبيع محصولها بشكلٍ يوميّ، ويقتات من عائدها هو وعائلته المكونة من أربعة أشخاص.
يتحدّث صالح عن رغبة جامحة كانت تتملكه في زمنٍ مضى لزراعة أصناف عدّة من أشجار النخيل، لكنه أحجم بسبب وضع المديرية "المُزري" كما يصفه، ملخصًا هذه المعاناة بغصّة بدت واضحة عليه، قائلًا: "الحكومة نست وادي حجر تمامًا، ونست مُزارعيها ونخيلنا، للأسف، مرّت هذه الكارثة ولم يزرنا حتى مسؤول، لا أحد سأل عنا حتى مجرد سؤال، ولن يفعلوا ذلك بالتأكيد، فنحن المنسيون، في مديرية منسية!".
ويُجمِل محـمد بانوبي، مدير مكتب الزراعة والري بالمديرية، أبرز التدخلات التي قامت بها السلطة المحلية؛ للتخفيف من آثار هذه الكارثة على المزارعين، والمتمثلة في إصلاح بعض الحواجز والقنوات المائية الترابية، وتوفير المعدات للعملِ فيها. إلّا أنّ المزارعين يرون بأن هذه التدخلات خجولة، وجاءت على استحياء، وغير كافية مطلقًا، ولا ترقى ولا تليق بحجم وإمكانيات السلطة المحلية للمديرية، التي كانت تُشاهِد ليل نهار ثروةً وطنيةً تموت بالآلاف أمامها دون أن تُحرِّك ساكِنًا.
لسان حال كل الأهالي، بمن فيهم المزارعون، يؤكّد بأنّ هذا الإهمال والنسيان من قبل الحكومة للمديرية وأهلها "ليس وليد اللحظة، بل هو عملية تراكمية عايشوها سنينًا امتدت منذ العام 2007، عندما ضرب إعصار غونو المداري المديرية، وبعده تشابالا الاستوائي في 2015، مرورًا بإعصار لبان في العام 2018"، والتي خلّفت أضرارًا كبيرة على كلّ الأصعدة، لا سيما بالزراعة والمزارعين، "لكنّ أحدًا لم يلتفت لهم ولا إلى معاناتهم المضاعفة"، كما يقولون.
"خيوط"