وأنا أقرأ في سيرة (المعالفة) وهم آل معلوف المعروفون في لبنان والعالم العربي قاطبة وفي غيره، تلك العائلة العريقة المشعة بسحر الكلمة والنابضة بمعاني الجمال في أسمى تجلياتها، والتي ينتمي إليها عدد غير قليل من الكُتاب واللغويين والأدباء والشعراء المبدعين والاستثنائيين، أذكر منهم أمين ورياض وعيسى وشفيق وفوزي وقيصر وناصيف وغيرهم من أصحاب الإسهامات الجليَّة ذات الأثر العظيم على اللغة العربية وازدهارها، وعلى الشعر والأدب في فترة من تاريخهما المعاصر؛ ثم وأنا أقرأ في سيرة (الرحابنة) وهي عائلة الرحباني ومنها عاصي ومنصور وإلياس وغدي وأسامة والتي حققت نجاحات كبيرة وباهرة في عالم الفن والموسيقى، وأحدثت أثراً تاريخياً بالغاً على تطور وانتشار الأغنية اللبنانية في العالم العربي وخارج حدوده ظل وهجه ساطعاً منذ بزوغه وحتى اليوم وسيبقى لأجيال أخرى قادمة، إذا ما وضعنا في صدارة الإنجازات الرحبانية الموسيقية السامقة شريكة عاصي في العمر والفن والنجاح (فيروز) بصوتها الذهبي المهيب، أقول وأنا أقرأ في سيرة هاتين العائلتين الفريدتين من حيث كونهما مبدعتين بامتياز، يتبيَّن لي أنهما نموذجان قريبان ودليلان واضحان على أن نهور الأدب والفن ربما جرت في بعض العائلات بالوراثة والنسب أحياناً، أو بالمعايشة والتأثر والاكتساب والممارسة في أحايين أخرى، مع التسليم بأن الإبداع لا يورَّث وأن الإنسان يولد مبدعاً بالفطرة، ولكن يبقى للبيئة أثر مهم لا يمكن إغفاله من حيث كونها عاملاً مساعداً على نشوء ونماء الموهبة، ولا شك في أن هناك مثل هاتين العائلتين الكثير من العائلات في العالم والوطن العربي معروفة في أوطانها ومنتصبة كمنارات مضيئة في تاريخها الثقافي.

  ترد الآن إلى خاطري وذاكرتي صور لثلاثة إخوة أشقاء عرفتهم في مرحلة من حياتي الماضية في مدينة عدن جنوب اليمن ينتسبون إلى عائلة (جُمَّن) هم شكيب وعدنان وعارف، أما شكيب (1949 - 1991) وهو أكبرهم فكان قطعة فنية تمشي على الأرض، أبدع في فنون عدة كالرسم والخط والموسيقى وفن الديكور وخاصة في التلفزيون والمسرح، وفي تأليف وتلحين أغاني الأطفال، إذ عمل فترة من حياته في تلفزيون عدن الذي افتتح في سبتمبر 1964 معداً ومقدماً لبرامج الأطفال، كما أتقن العزف على الآلات الموسيقية وأسس فرقة موسيقية أسماها (الأنامل الذهبية) ضمت عدداً من أمهر العازفين، وكان لهذه الفرقة شأن وصيت في الحياة الفنية آنذاك. أتقن شكيب وبرع في العزف على آلة الكمان التي حقق من خلالها شهرة واسعة جعلت كبار الفنانين والمطربين يطلبون منه مرافقتهم للعزف في تسجيلاتهم وحفلاتهم الفنية. وبالرغم من حياته القصيرة إلا أنه ترك إرثاً فنياً كبيراً وأعمالاً خالدة لا يمحوها الزمان، كما أن نجله (أحمد) من بعده مازال يترسم خطاه على دروب الفن والموسيقى ويبدع فيها أيما إبداع.


وأما ( عدنان ) فقد حباه الله موهبة نادرة وفريدة في فن الرسم إلى الحد الذي يجعل آلة التصوير تغار من قلمه وريشته.. إنه يرسم الوجوه والبيئة المحلية والحياة اليومية بدقة متناهية كما لو أن عدسة تصوير تنقلها كما هي بتفاصيلها ونبضها وحركاتها. ويعد عدنان من أهم الفنانين التشكيليين وواحداً من أبرز فناني البورتريه في اليمن، كما أن له إسهاماً واضحاً في مجال رسوم الأطفال، وكان في فترة معينة ينشر رسوماً كاريكاتورية في الصحافة بشكل يومي، وحقق في ذلك شهرة عريضة، أما هو فيقول عن نفسه إنه (ينتمي إلى الواقعية التأثيرية التي استلهمها من أساتذته الروس).

 وعلى خطى أخيه الأكبر شكيب مع الموسيقى سار ( عارف ) مبدعاً غير عادي في الإحساس بالنغم والعزف على العود والكمان الذي تعلمه منه وربما فاقه في استنطاقه.
إن عائلة ( جُمَّن ) مثلٌ واحد من أمثلة سريان الإبداع في بعض العائلات إما بالوراثة والانتساب وإما بالمعايشة والاكتساب، وهذه مسألة ظلت دائماً وستبقى محل نقاشات ودراسات وأبحاث أدبية
وعلمية، أما أنا فأردت هنا إلقاء عمود ضوء على إحدى العائلات الموهوبة في جزء عزيز من وطننا العربي الكبير.
عن مجلة "الشارقة الثقافية" - 1 أغسطس