"اليمن من الداخل".. رحلات في أمكنة التاريخ
> "الأيام" الجزيرة:
>
وتشمل الرحلة مدنا كصنعاء وعدن وإب وشبام حضرموت وثِلاء والهجرين ودمت وتريم والطويلة، وهي مدن تتناثر جغرافيا من شمال البلاد مرورا بوسطها وإلى جنوبها، وجزيرة سُقطرى، حيث الطبيعة البكر وحديث الناس بلغتهم السقطرية المختلفة عن لغة اليمنيين المعتادة ولهجاتهم المنبثقة عنها.
ويحذر الكاتب من مخاطر التحطيب الجائر الذي تزايد في السنوات الأخيرة، متسببا في استهلاك نحو 90 % من الأشجار المعمرة في ظل أزمات انعدام وارتفاع أسعار غاز الطهي، كما يحذر من الحفر العشوائي المتزايد لآبار المياه واتساع زراعة القات على حساب بؤر رئيسة في المحمية.
والطريق الرابع "جهة الجزر والمحميات" يطوف فيه الأغبري "جزيرة سُقطرى" البكر بطبيعيها المنفردة وبلغتها وطقوس وإرث إنسانها، وينتهي به الطريق عودة إلى محمية "عتمة" غير القريبة تماما.
غير أن الكاتب، يتوقف هناك ليقرأ علاقة الشارع بالمبدعين والإبداع عموما، فهؤلاء "وإن كانت لهم خساراتهم وهمومهم أيضا"؛ فإنهم أضافوا زخما آخر لهذا المكان، فقد صار "مقهى مُدهِش" -أحد مقاهي شارع المطاعم- ملتقى يوميا يقصده كثير من الأدباء والفنانين والصحفيين.
ويضيف أن الكتاب يمثل دعوة للأجيال الحالية من اليمنيين للعودة للانتماء للفن؛ الذي تتجلى عظمته بين ظهرانيهم، وتحديدا فيما قدمه الأجداد من تنوع وجمال، تفلسفه علاقتهم بالمكان، وتترجمه المدن والقرى والحصون والقلاع والمدارس والقصور.
وهذا الكتاب هو سرديات وصفية لرحلات مكانية مرتدية ثوب الأدب ومتحدثة بلغة الفن؛ تقدم شهادة متخففة من أي تحيز عن بلد يتآكل حضوره الإبداعي في وعي أبنائه: شهادات تروي سير الأجداد مع المنجز الحضاري، ودليل يرشد إلى طريق النجاة واستئناف النهوض.
ويفيد الأغبري بأن هناك كتابين آخرين له يصبان في ذات الاتجاه، سيصدران لاحقا، الأول يُعيد الاعتبار لليمن في علاقته بالفن، لكن هذه المرة سينطلق من الحاضر، وتحديدا من أبرز تجليات الفن الحديث، وعلى وجه الخصوص الفن التشكيلي، وفيه يقدم قراءات في أبرز التجارب التشكيلية اليمنية. والكتاب الآخر يشتغل على تجربة اليمن مع فنون الأداء (المسرح والغناء والموسيقى والسينما والدراما).
وكان صدر للأغبري عام 2020 كتاب بعنوان "أجنحة الكلام وفضاء الأسئلة- مقاربات يمنية"، حيث يقدّم اليمن من خلال نتاجات سردية وشعرية على امتداد عقود؛ بما فيها التي صدرت خلال سنين الحرب، متضمنا شهادة مغايرة ومنصفة عن بلد "يتحول إلى مقبرة كبيرة لأبنائه، ويعكس للآخر صورة ليست هي صورته المتأصلة في متن شخصيته"، على حد تعبير الكاتب الأغبري.
يطوف الصحفي والناقد والكاتب المتخصص بالشأن الثقافي اليمني، أحمد الأغبري، بقارئه في مناطق شتى من اليمن ضمن كتابه الصادر حديثا "اليمن من الداخل.. المكان شاهدا" عن دار "عناوين بوكس" في القاهرة.
في 200 صفحة، تتوزع رحلات الأغبري على 20 مكانا، والتي تشمل مدنا كصنعاء وعدن وإب وشبام حضرموت، وتنتهي بشارع المطاعم الواقع في زاوية بميدان التحرير في قلب صنعاء، الذي يعد ملتقى للأدباء والكتّاب والفنانين، حيث صخب الحياة اليومية وحزمة مطاعم تقدم وجبات شعبية يؤمها البسطاء في الأغلب.
يحاول الكتاب، تقديم قراءة مختلفة لليمن من داخله، كشهادة حية عن بلد يتصدر المكان واجهته الثقافية، حيث المكان هو أول الدروب إلى ذاكرة الإنسان، وأهم شاهد على هُويته ومنجزه الثقافي، كما هو وسيلته للتعبير عن خصوصيته.
- "الزمردة الخضراء"
ويذهب الكاتب إلى محمية عُتمة الواقعة في محافظة ذمار (وسط اليمن)، حيث ينبسط جمال الطبيعة ببذخ، يفترش الأرض متموجا وصاعدا إلى المرتفعات بمدرجاتها الساحرة وهابطا في الوديان المكسوة بالاخضرار معظم أيام السنة.
ويُطلِق الكاتب على محمية عُتمة اسم "الزمرّدة الخضراء"؛ نسبة إلى تنوع خصوصياتها النباتية والحيوانية معتمدة على غطاء نباتي يمتد إلى أحراش وغابات جبلية يوفر مرعى للحيوانات الأليفة، ومرتعا لحيوانات وطيور برية متنوعة.
- كبرياء وإهمال
ويتوقف الكاتب أمام شواهد المكان وخصوصيته في قرية "بيت بوس" الأثرية المنتصبة بكبرياء أسطوري على تل صخري جنوب غرب مدينة صنعاء، فيعدها شاهدا ليس فقط على خصوصية القيمة الحضارية للحصون والقلاع في التاريخ اليمني، وإنما أيضا على فداحة ما يشير إليه بـ"المأساة التي ترتكبها المدينة الحديثة بعمقها التاريخي الحضاري لضواحيها وتداعيات إهمال الصيانة والترميم".
ويذهب بعيدا إلى قرية "حيد الجزيل" الواقعة غربي محافظة حضرموت؛ حيث يمر "وادي دوعن" الشهير وتجثم بيوت طينية على سطح جرف صخري ضخم يقع على ربوة تتوسط ملتقى واديين، في مشهد يتداخل فيه موقع الصخرة الفريد وبهاء المعمار الطيني الجميل، ومن حولهما خضرة الوادي وزهو الجبال وأنفتها.
ومنتهيا من "جهة المدينة" أو ما يقول عنه "الناصية الأولى" التي شملت 9 مدن، تتبعها قريتان ضمن طريقه "جهة القرية"، ثم الطريق الثالث "جهة المدرسة والقصر"، حيث يتوقف الكاتب في رحاب "المدرسة العامرية" في "رداع" وسط البلاد الشاهدة على فن الزخرفة، ومنها يتجه الكاتب (والقارئ معا) إلى دهشة العمارة الطينية في "قصر سيئون" بأقصى شرق البلاد الحضرميّ، ثم عودة إلى "دار الحجر" القصر الذي شُيّد بروح قصيدة.
- مقهى مدهش.. ملتقى الإبداع
غير أن الكاتب، يتوقف هناك ليقرأ علاقة الشارع بالمبدعين والإبداع عموما، فهؤلاء "وإن كانت لهم خساراتهم وهمومهم أيضا"؛ فإنهم أضافوا زخما آخر لهذا المكان، فقد صار "مقهى مُدهِش" -أحد مقاهي شارع المطاعم- ملتقى يوميا يقصده كثير من الأدباء والفنانين والصحفيين.
- مشروع ثقافي يمتد منذ ربع قرن
يقول الكاتب أحمد الأغبري للجزيرة نت إن كتاب "اليمن من الداخل" يأتي ضمن مشروع ثقافي يشتغل عليه منذ ربع قرن خلال عمله في الصحافة والكتابة، ويستهدف إعادة تقديم اليمن من زاوية غيّبتها السياسة والحرب والصراع على السلطة على مدى العقود الماضية؛ وهي زاوية القيمة الإبداعية الجمالية لنتاج البلد الثقافي.
وينوه الأغبري إلى أن الكتاب هو "نتاج 10 سنوات من التنقل بين مناطق اليمن والكتابة عنها، وقد ارتكز على المكان باعتباره الشاهد الأهم على عظمة الفن، الذي انتمى إليه أسلافنا، كهوية حمت تنوعهم".
وتابع "تنقل الكتاب بين الجهات الأربع لليمن على امتداد تنوعه: تفاصيل انطلقت من الجغرافيا، تعاملت مع التاريخ، واعتمدت أدب الرحلة، كتبتها بجوارحي كشهادة مرتبطة بأسباب الحياة والنهضة في بلد تتزاحم فيه أخبار الموت والتخلف".
وهذه الطريق هي الانتماء للإبداع والفن، حيث يتتبع الكتاب ملامح الفن في المكان في سياق التعرف إلى الهوية من خلال ثنائية المكان والإنسا، لقراءة أبرز ملامح شخصية هذا البلد.
- 20 نصا
من جهته، يلفت الروائي اليمني، وجدي الأهدل، الانتباه إلى أنه جرت العادة أن يكتب الرحالة العرب والمستشرقون الأجانب عن رحلاتهم وإقامتهم في اليمن، ولكن الكاتب والصحفي اليمني أحمد الأغبري كسر هذه القاعدة، وسخّر قلمه لوصف بلاده والتغزل بمحاسنها، فقد جاب اليمن من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها، وتنقل بين سهولها وشعابها وجزرها وسواحلها، ودوّن -خلال سنوات- ثروة من المعلومات والأوصاف؛ جامعا بين التأريخ والجغرافيا.
وقال الأهدل للجزيرة نت "إننا أمام 20 نصا، كل نص يتحدث عن بقعة جغرافية أو معلم تاريخي يتميز بفرادة وعراقة ضاربة في جذور التاريخ".