التضخم وتبدل المصائر في اليمن

> د. محمد الميتمي:

> ​تعصف بالاقتصاد والمجتمع اليمني موجة تسونامي كاسحة من التضخم المفرط، تسدل الستار بطغيانها وعنفها وفتكها على آمال اليمنيين في حياة حرة كريمة. تتبدل مصائر الملايين مع كل يوم قادم ليكتسح التضخم الجامح حياتهم ويسلب من موائدهم الطعام ومن نفوسهم يسلب الآمال.

من واجبنا أن نحذر من أن التضخم المفرط الذي يندفع كالطوفان في قنوات الاقتصاد اليمني من شأنه أن يبدل كما تفعل بهم الحرب مصائر اليمنيين، ليرمي بهم إلى قعر الهاوية، ويقضي على كل ما تبقى من وميض خافت في الأمل بالعيش بكرامة وإنسانية. فالتضخم آفة مميتة، كما عبر الاقتصادي الإنجليزي جون هتري، ما إن تمسك بخناق النظام الاقتصادي – الاجتماعي حتى تسممه برمته.

أما مبشر الرأسمالية جون مينارد كينز فقد حذر من تدهور العملة قائلا: ليست ثمة وسيلة أكثر خبثا وضمانا لقلب الأسس القائمة لوجود المجتمع من تدهور العملة.

لا تكمن خطورة انهيار العملة فقط في مقدرتها على سلب الناس ثرواتهم وحقهم في العيش بأمان وحرية وكرامة، بل ما تقوم به من سحق للمجتمع، وتغيير لمواقف مواطنيه، وسلوكهم، وأفعالهم. إن التضخم الجامح هو نبع الفقر ومورده. الفقر الذي “لو كان رجلا” لوجب قتله كما قال الفاروق عمر.

لسنا اليوم بصدد تناول معدلات التضخم ومعدلات تآكل قيمة الريال خلال العقود الأربعة الأخيرة، منذ قيام الوحدة اليمنية في مايو 1990. فقد سبق لنا أن تناولنا ذلك بالتفصيل ضمن هذه الصحيفة (العرب اللندنية) وصحف يمنية أخرى. ما يمكن أن نشير إليه الآن على عجالة أن قيمة الريال اليمني قد انخفضت بمقدار 86 في المئة في شهر ديسمبر الماضي مقابل الدولار قياسا بعام 2014، وبعبارة أخرى نقول إن قيمة الدولار الأميركي بالمقارنة مع الريال ارتفعت بمقدار 630 في المئة خلال تلك الفترة.

ولتوضيح دلالة انهيار القيمة الشرائية للريال للقارئ غير المتخصص نقول: إذا افترضنا أن متوسط الأجر الشهري للفرد في اليمن في عام 2014 بلغ 100 دولار أميركي فإن القيمة الحقيقية لذلك الراتب أصحبت اليوم تعادل 14 دولارا. إلا أن ذلك لا يكشف عن المحنة كلها. فأسعار السلع والخدمات التي ترتبط بعلاقة عكسية مع معدلات نمو العملة لا تنمو بنفس معدل هبوطها، بل تتجاوز ذلك بمراحل، وهو الأمر الذي لا يخالف القاعدة.

إن الأرقام القياسية لأسعار الجملة والتجزئة للسلع والخدمات تحلق عادة في السماء بمعدلات وسرعات أعلى بكثير من ارتفاع قيمة العملة الأجنبية مقابل العملة الوطنية. لذلك فإن اختفاء قائمة السلع الضرورية من على مائدة طعام غالبية السكان يكون كاسحا ومهلكا، حيث لا يترك لهم سوى كسرات الخبز الجافة وفي حالات كثيرة تبقى البطون خاوية لأيام.

لقد دفن التضخم الجامح بالتضافر مع الحرب الشرسة أمن واستقرار ملايين اليمنيين، الذين كانوا في الماضي القريب ينتمون إلى الطبقة الوسطى، التي تشكلت ونمت وازدهرت في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين. واليوم وفقا للتقديرات الدولية أصبح نحو 22 مليون يمني من أصل 35 مليونا ينتظرون المساعدات الغذائية، وسقط نحو 65 في المئة منهم في براثن الفقر المدقع، و65 في المئة من القوة العاملة بلا عمل.

هذه الأرقام لا تستطيع أن تعبر عن هول ما يقاسي منه اليمنيون اليوم ومما يفعله بهم هذان الوحشان الضاريان، الحرب والتضخم الركودي، وهو ثنائي لا يجيد سوى نزع الحرية والكرامة الإنسانية وإحضار الموت والهلاك إلى البيوت والأوطان، وفي المحصلة النهائية يتوليان إعادة تركيب النفس البشرية والسلوك الإنساني ويجرداهما من منظومة القيم والأخلاق وأسس التعايش المشترك والسلوكيات الاجتماعية الخلاقة التي اكتسبها الأفراد والأسر والجماعات على امتداد آلاف السنين.

الفقر، تقول إحدى النساء الفقيرات، كحر الجحيم، تعيشه وتصطلي بناره دون أن تراه. وقد قال لي مؤخرا أستاذ جامعي يعمل في إحدى الجامعات اليمنية إن حذاءه الذي اعتاد أن يذهب به إلى الجامعة التي يلقي فيها محاضراته قد تمزق تماما، وليس لديه من المال ما يكفي لشراء بديل منه. وقال آخر إنه عندما يصاب أحد أبنائه بالحمى لا يجد سوى الماء البارد لإخمادها، لأن الدواء صار أمرا بعيد المنال.

نحن نتحدث عن شريحة اجتماعية كانت حتى عقد مضى من الزمن تندرج تحت تصنيف الطبقة الوسطى، التي تنعم بالحد الأدنى من العيش الكريم والأمان والاستقرار الاجتماعي، فما حال ملايين الفقراء اليمنيين في الأرياف والمدن الذين سلبتهم الحرب وسلبهم التضخم كل ما يملكون للبقاء وكل رجاء وأمل في الحياة بحدودها الدنيا المتواضعة.

وأينما تموضع التضخم الجامح وتمدد وانتشر، تمدد معه الفقر والفحشاء والظلم والاستعباد. ليس الفقر مجرد الافتقار إلى المأكل والمشرب والعري من الكساء والسكن فقط، بل هو أيضا إذلال للروح والكرامة الإنسانية، وهو جفاف أنهار الحب والرحمة، وهو نبع البغضاء والكراهية والفتن. ولهذا حين يحضر الفقر تحضر النزاعات والصراعات الدامية والقتل. الفقر هو أبوالفاحشة وأم الاستبداد.

لقد أجاب جواهر لال نهرو على سؤال ابنته أنديرا غاندي عما تفعله الحروب وانهيار الاقتصاد بالمجتمع قائلا: تنهار معهما أخلاق المجتمع. وبانهيار الأخلاق يصبح المجتمع بقعة موحشة مظلمة كالغابة لا يعيش فيها ويزدهر إلا الضواري. أو كما يفضل بعض السياسيين الغربيين المعاصرين نعت الحال بـ“الفوضى الخلاقة”.

المجتمع اليمني الذي عهدناه قبل هذه الحرب اللعينة، من حيث تماسكه الاجتماعي وأبنيته الاقتصادية والمؤسسية ومنظومته الأخلاقية والقيمية وحراكه المجتمعي السليم وديناميته الخلاقة المبدعة، يتوارى عن أنظارنا رويدا، رويدا.. كما لو أن فاعلا ومدبرا شيطانيا قد خطط ودبر ونفذ ليلقي بهذه الأمة العريقة في مدافن التاريخ.

المفاجئ والمحزن هو الاستسلام والتخاذل والتآمر الذي يخيم على الكثير من اليمنيين أمام المصير الذي ينتظرهم، كما فعل سلاطين بغداد وسكانها أيام الخليفة العباسي المعتصم بالله الذي انتظر مع جنده وأعوانه الغازي الأكبر هولاكو ليدمر مدينتهم ويذبحهم كالنعاج ويأتي على نحو مليون ونصف من النساء والرجال والأطفال والشيوخ.

تآمر حكام دمشق وحلب والموصل وغيرهم على بعضهم وتملقوا هولاكو وحثوه على غزو بلادهم وإسقاط الخلافة العباسية التي شيدت أنصع الحضارات الإنسانية في التاريخ الوسيط، حتى قال فيهم هولاكو نفسه: ما شأن هؤلاء الحكام، إنهم لا يدمنون شيئا سوى الخيانة.

ما الذي نتوقعه من مجتمع سلب التضخم الجامح بالتضافر مع الحرب الضارية مواطنيه كل وسائل العيش الكريم، وسبل الأمن والأمان والاستقرار. كيف يبدو حال مجتمع يرى السلع تتكدس على رفوف المتاجر والمواطن عاجز عن مد يديه للقليل منها ليسد به رمق أطفاله الجياع؟ يا ترى ماذا سيكون نمط تفكيره وسلوكه وأحكامه؟

لقد قال العرب قديما إذا سافر الفقر إلى مكان ما، قال الكفر خذني معك. ماذا يُنتظر من مجتمع تمزق نسيجه وتشرد الملايين من أبنائه في الفيافي والقفار. كيف ستكون نظرتهم لأسر تتفكك ويهيم أطفالها في الشوارع لالتقاط باقي الموائد؟ كيف تكون نظرتهم للحياة ومواقفهم من أولئك الذين سلبوهم عيشهم وأمنهم واستقرارهم وكل ما هو حق لهم في الحياة الحرة الكريمة.. سلبوهم وجودهم ووجدانهم وإيمانهم بالقيم الإنسانية والضمير الإنساني التي من دونها يغدو العنف والانتقام هما الملاذ الأخير.

ها نحن، ويا للأسف، نشهد بعثا جديدا ومنهجا لإسقاط الإنسان والإنسانية في أدغال الوحشية والبربرية وإسقاط الأخلاق والضمير الإنساني الجمعي في غياهب قانون الغاب والبقاء للأقوى.

ولمّا كان ذلك هو الحال القائم اليوم في اليمن، فإن التصدي للتضخم وكبح جماحه لا يعد أولوية اقتصادية فحسب، بل هو أولوية اجتماعية وسياسية وإنسانية أيضا.

سفير اليمن بالصين

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى