أرض الصومال ليست جمهورية موز

> د. هيثم الزبيدي:

> ​نبدأ من حيث كان ينبغي أن تنتهي الأمور: لو أن أرض الصومال كانت بلدا نفطيا، لكانت اليوم دولة مستقلة، وما احتاجت أن تمر بالامتحان القاسي بالوحدة مع الصومال، البلد الغارق في الصراعات منذ تأسيسه إلى حد اليوم. فثمة ملامح تاريخية مشتركة بين محميات الخليج ومحمية أرض الصومال. المنطقتان كانتا سياسيا تحت النفوذ البريطاني في أوج قوة الإمبراطورية البريطانية، وفي مراحل زمنية متقاربة. ومثلما حكم شيوخ متنفذون وأصحاب تاريخ طويل في منطقة الخليج تلك المحميات التي تحولت إلى دول إثر الاستقلال، كانت أرض الصومال تحظى بحكم سلاطين ذوي تاريخ طويل ومكانة محلية مرموقة.

تعاملت بريطانيا مع منطقة القرن الأفريقي وجنوب اليمن والخليج على أساس أنها من حافات إمبراطوريتها في الهند. لم يكن من باب الصدفة التركيز على هذه المناطق من أفريقيا والجزيرة العربية. الاهتمام سبق افتتاح قناة السويس، وزادت أهمية خليج عدن وضفتيه مع تحول حركة النقل البحري نحو البحر الأحمر وصولا إلى البحر المتوسط عبر القناة المفتتحة حديثا. العملة الهندية، الروبية (التي تقسم إلى مئة بيزة)، كانت عملة أرض الصومال وعدن وسلطنات الساحل الجنوبي ومسقط ومشيخات الخليج. مكاتب البريد التي تحمل الطوابع الهندية الموشحة بأسماء المحميات، كانت من أساسيات التواصل مع العالم. الجيش البريطاني لم يكن ينوي التخلي عن مواقعه هناك، وحارب من أجلها محاولات التمدد الإيطالية.

كانت أرض الصومال من أوائل خطوات السياسة البريطانية للانسحاب من شرق السويس. خلال عشرة أعوام، بين 1960 و1970، انسحبت بريطانيا أولا من أرض الصومال ثم عدن ومنطقة الجنوب العربي ثم الخليج. يوم قررت الانسحاب من أرض الصومال، تركت نظريا دولة مستقلة بمجلس وطني. اعترفت 35 دولة بالدولة الحديثة، وتلقت أرض الصومال برقية تهنئة من وزير الخارجية الأميركي. لكن الضغوط الدولية أجبرت المجلس على التخلي عن الاستقلال والانضمام إلى دولة الصومال الحديثة. وما إن مرت بضعة أشهر حتى بدأت المشاكل بين شعب أرض الصومال والقادمين من الجنوب. الاستقلال الذي أعلنته أرض الصومال عام 1991، بعد انهيار الحكم في مقديشو، هو تتمة لموقف تأسس عام 1961، أي في أول سنة للوحدة. المنطقة كانت مرتعا لتجاوزات سلطة الرئيس الصومالي الراحل محمد سياد بري، وأقربائه.

الحرب الأهلية في الصومال وفوضى الإرهاب والقرصنة من 1991 إلى حد الآن هي قوة طاردة لأي ساعٍ نحو الاستقرار. ما الذي لدى الصومال ليقدمه إلى أرض الصومال خلال أكثر من 30 سنة من الحرب الأهلية؟ بقعة استقرار تبحث عن مكان لها في منطقة مهمة تجاور بؤرة اضطرابات. ضع جانبا الرواية التاريخية وكيف وصلنا إلى هنا؛ ألا تكفي 30 سنة من الفوضى في بلد لكي تحاول قوى عقلانية لديها ما يمكّنها جغرافيّا من الاستقلال أن تبتعد عن المآسي

ثم ما هي طبيعة هذه العقود الثلاثة؟ كم من دولة بمواصفات أرض الصومال تأسست منذ التسعينات بعد أن صار من الصعب استمرارها في اتحادات سياسية مفتعلة؟ هل الصومال كدولة أهم من الاتحاد السوفييتي وريث الإمبراطورية القيصرية الروسية في أوروبا وآسيا؟ أو أهم من يوغسلافيا أو تشيكوسلوفاكيا في أوروبا؟ بل هل الصومال أهم من السودان الذي أصبح دولتين بعد استحالة العيش المشترك؟ ماذا عن إريتريا التي انفصلت عن أثيوبيا؟ حتى في مجال القرن الأفريقي، تبدو أرض الصومال أكثر من مؤهلة للاستقلال.

العامل الأثيوبي مهم في الدفع نحو الاستقلال. مذكرة التفاهم التي تم توقيعها بين أثيوبيا وأرض الصومال هي خطوة أولية لأكثر من تحرك سياسي واقتصادي. فالإريتريون لا يزالون يصفّون حساباتهم مع الإثيوبيين ولن يمنحوهم منفذا بحريا مريحا على المدى المنظور. ورغم هدوء السياسة في جيبوتي، فإن أقصى ما يمكن أن تقدمه لإثيوبيا هو ميناء مقابل رسوم مرور. ما تسعى إليه أديس أبابا هو منفذ بحري بمواصفات كاملة، تجارية وعسكرية.

إثيوبيا بلد كبير ومهم وصاحب إمكانيات متعددة. في الوقت الذي انشغلت فيه دول مثل مصر والسودان بمشاكل السياسة، كانت إثيوبيا تعيد بناء نفسها سياسيّا واقتصاديّا. هذا البناء الذي وصل إلى مديات مهمة على يد رئيس الوزراء آبي أحمد، وجد من ينتبه إليه في الخليج، وخصوصا في الإمارات. تنافست الإمارات مع تركيا وقطر في الصومال، ثم خرجت بقناعة أن الصومال منطقة عدم استقرار ولا تستحق الاستثمار فيها. توجه الاهتمام إلى إثيوبيا مرورا بأرض الصومال. ما بدأ عقد تطوير لميناء، تحول إلى مشروع واسع يمتد من ساحل خليج عدن والبحر العربي، وصولا إلى عمق الأراضي الزراعية الإثيوبية.

هذه التركيبة التي تجمع بين الموقع الإستراتيجي على بوابة البحر الأحمر لأرض الصومال، والقدرات الإثيوبية البشرية والزراعية والمائية، والتمويل والاستثمار القادميْن من الإمارات، تستطيع أن تغير طبيعة المنطقة وتكون عامل استقرار مهمّا. هذه منطقة استنزفتها الحروب الأهلية والصراعات والقرصنة والإرهاب، وضيعت عليها الكثير من الفرص. لا نحتاج إلى الخيال لكي نعرف كيف سيكون حال بلد مثل أرض الصومال، فالمشهد القادم من مقديشو أكثر من كافٍ. الصوت المعارض القادم من سلطات مقديشو، الحكومة ومجلس أمراء الحرب، لن يجد من يستمع إليه في هرجيسا أو بربرة. لو كان ثمة ما يستحق من كلام، لَقِيل منذ 1991، بل ومنذ الاستقلال عام 1961.

لو توفرت البدائل لكانت أديس أبابا قد ذهبت إليها من دون الدخول في أزمة مع دولة جارة. هل يمكن الوثوق بشخصية مثل الرئيس الإريتري أسياس أفورقي؟ هذا الذي انقلب على داعمي استقلال إريتريا من الدول العربية، وركض إلى إقامة العلاقات مع إسرائيل ما إن تمكن من الاستقلال. هل بوسع إثيوبيا أن تزاحم القاعدة الفرنسية في جيبوتي؟ هل ثمة عاقل يستثمر في الصومال؟

من باب السخرية، يطلق في الغرب على الدول الهشة مصطلح “جمهوريات الموز”. إلى آخر الثمانينات، كان بوسعك أن تجد الموز الصومالي في الأسواق. دولة أمراء الحرب في الصومال دمرت حتى زراعة الموز وتجارته وحرمت البلاد من عائداته. القدر لم يمنح أرض الصومال نفطًا تحمي به استقلالها في الستينات. لكنها تحمي نفسها اليوم من الفوضى، بل وترفض حتى أن تصبح “جمهورية موز”. مقديشو أخذت الكثير من الفرص. الآن لاحت فرصة هرجيسا وأديس أبابا.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى