مستقبل السلام والتنمية في اليمن في ظل مصيدة الاضطرابات النفسية (1)

> د. محمد الميتمي:

> ​زوج يطفئ أعقاب سجائره في حدقات أعين زوجته ظنّا منه أن حدقاتها مطفأة للسجاير، أمٌّ تقتل ابنتيها وطفلها الصغير بالسم خشية عليهم من الضياع والتشرد لأنها عجزت عن توفير الطعام والملبس والمأوى اللائق لهم، ثمّ تنتحر وهي على يقين أنها بذلك تؤمن لهم الراحة والسكينة والسلام في الدار الآخرة التي لم تجدها هي في هذه الدنيا، أخ يردي أخويه قتيلين دون سبب يعلمه ودون أحساس بأي شعور أو ذنب. تلك نماذج قليلة وإن بدا بعضها متطرفا، لكن ضحايا الاضطراب النفسي في اليمن هم اليوم كثر ويقدرون بالملايين.

زواج الصغيرات من عمر سبع سنوات على سبيل المثال، لم يعد كما كان شائعا في الماضي باعتباره ممارسة تقليدية درجت عليها بعض الأسر والمجتمعات المحلية، بل صار وسيلة متكررة لخلاص الأسر المعيلة من أعباء أسرية لا قبل لهم على تحملها في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية وبالغة السوء. العنف الأسري والاجتماعي صار ظاهرة شائعة بشكل لم يشهده اليمن من قبل عبر كل تأريخها الطويل، حيث تسجل صحائف الجنايات وعيون المارة حوادث عنف واعتداءات متكررة تنتهي بالموت والإعاقة.

تقول إحدى الفتيات التي قاست أهوال العنف الأسري الشديد من والدها الذي كان يعاني الاكتئاب والذهان وكثرة الشكوك والأوهام كتعبير عن اضطراب حالته العقلية، ” لجأت إلى مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري بحثا عن العلاج والدعم النفسي وتخليصي من الجحيم الذي أعيشه، فكان لي ذلك عندما قام الإخصائيون والأطباء النفسيون في هذه المؤسسة الرائدة باستدعاء والدي وتعريضه للعلاج وتقديم الدواء المجاني له والإرشاد. فتحرّر البيت كلّه من هذا الكابوس المخيف وتنفسنا الصعداء”.

يعرض دليل حاصل الصحة العقلية (MHQ) لمجموعة شاملة من السمات العاطفية والاجتماعية والمعرفية التي تشمل كلا من مشاكل وأعراض الصحة العقلية على النحو المحدد في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM-5). فبالإضافة إلى السمات العقلية الإيجابية، يموضع هذا الدليل أفراد أي مجتمع من حيث درجة الرفاهية والصحة العقلية الإجمالية في طيف واسع من البائسة إلى الازدهار. يمثل النطاق السلبي للمقياس درجات الرفاهية والصحة العقلية التي تترك بصماتها على القدرة على العمل والمخاطر والتحديات على المستوى السريري.

كما يتم حساب ستة أبعاد وظيفية للمزاج والتوقعات، والذات الاجتماعية، والقيادة والتحفيز، والقدرة على التكيف والمرونة، والإدراك، والاتصال بين العقل والجسد. بالإضافة إلى ذلك، يلتقط الدليل تحولا للتركيبة السكانية، وعوامل نمط الحياة، وديناميكيات الأصدقاء والعائلة، والصدمات والشدائد، مما يوفر سياقا غنيا لفهم الدوافع الرئيسية لمخاطر وتحديات الاضطرابات النفسية التي تواجه أي مجتمع.

كلّ هذه المؤشرات الحيوية المرتبطة بالصحة العقلية وظّفتها وتعاملت معها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري، وهي المؤسسة الرائدة الأكبر في اليمن والأكثر كفاءة وخبرة بمسؤولية وطنية عالية ومهنية رفيعة لمعالجة أكثر الظواهر تحديا وخطرا على السلام والتنمية في اليمن التي تتلخص بانهيار الصحة النفسية في أوساط المجتمع.

فقد استقبلت هذه المؤسسة وفقا لإحصاءاتها أكثر من 260 ألف حالة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وتعيد من أبوابها 100 حالة يلجؤون إليها كل يوم بسبب نقص التمويل.
عندما نعلم أن هناك أكثر من مليون ومئتي ألف موظف حكومي يعيلون أكثر من سبعة ملايين شخصا لا يستلمون رواتبهم لأكثر من سبعة أعوام متتالة، ندرك حجم الضغوط النفسية التي يقع تحت ثقلها هؤلاء.

اليوم هناك ما لا يقل عن 22 مليون يمني من أصل 35 مليون ينتظرون المساعدات الإنسانية ليواصلوا البقاء على قيد الحياة في حدودها الدنيا. كما أن هناك، وفقا للتقارير الدولية، نحو 70 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأربعمائة ألف طفل تحت سن الخامسة معرضون للموت جوعا هذا العام.

ولا تفصح التقارير الدولية والإقليمية والمحلية إلا عن القليل من مثل تلك المآسي، وهو ما يقع فقط تحت مجال إبصارها. وفي الواقع يخضع عشرات الملايين من السكان، بالإضافة إلى كل ما ذكر أعلاه لضغوط عنيفة، من انعدام المياه النقية والكهرباء والبترول والديزل وتفشي الأمراض الوبائية على اختلاف مسمياتها كالكوليرا، وحمى الضنك والملاريا وغيرها التي تخطف الاف الأرواح من بين أسرها.

هذا نذر يسير فقط من الأمثلة عن حجم وقوة الضغوط التي تطيح بالتوازن النفسي لأفراد المجتمع. والأمراض النفسية بخلاف الأمراض العضوية، لا تؤثرعلى سلوك الفرد المريض وحالته، بل على جميع أفراد أسرته ومحيطه الاجتماعي.

حقا، اليمن اليوم مهيأ لعدم  بلوغ أهداف التنمية المستدامة وحلول السلام. فلقد وصفّت الأمم المتحدة حال اليمن على أنها أكبر كارثة إنسانية في القرن الواحد والعشرين. ولا تنفك التقارير الدولية والمحلية تصدمنا بمعلومات وأرقام ومعطيات وحقائق يشيب لها الوليد.

هذه الحرب هي من أكثر الحروب التي مرت بها اليمن دموية ودمارا. فاليمن غارق في حرب أهلية منذ عشر سنوات وحتى هذه اللحظة. وتصنف هذه الحرب على أنها أشرس الحروب التي تمر على اليمن عبر التاريخ وأكثرها اتساعا جغرافيا واجتماعيا.

وقد نقشت بضراوتها و وحشيتها ندوبا عميقة ودامية في وجه اليمن ومزقت بصلف وعبثية النسيج الاجتماعي، ونشرت الموت والجوع والرعب والمرض في كافة أرجاء اليمن بالإضافة إلى الخراب والدمار المادي والاقتصادي الذي أصابت كل نواحي الحياة، قدر البنك الدولي كلفتها بنحو 127 مليار دولار. لا توجد أسرة يمنية أو فرد يمني إلا ومسته هذه الحرب بنيرانها أو ألحقت به الضرر الاقتصادي والاجتماعي والنفسي.

وأشارت بعض الدراسات المبكرة في تأريخ هذه الحرب أن واحدا من كل 5 يمنيين يقاسي شكلا من أشكال الاضطراب النفسي الحاد (مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري، 2017)،ومع استمرار هذه الحرب واتساعها الرأسي والأفقي واشتداد ضراوتها وضررها على السكان، فإن نفس المصدر يقدر بأن واحدا من كل ثلاثة يمنيين اليوم يعاني اضطرابا نفسيا مخلا بتوازنه ومزعزعا لاستقراره.

الحديث يجري عن نحو 11 مليون رجل وامرأة، طفل وشاب، يعانون من الاضطراب النفسي في بلد يبلغ مجموع سكانه اليوم أكثرمن 35 مليون إنسان حسب الإسقاطات السكانية، وهوالبلد الأكبر من حيث عدد السكان في الخليج والجزيرة العربية.

إن حجم وعمق ومدى الاضطرابات النفسية التي أصابت اليمنيين من جراء هذه الحرب بين جميع الأجيال على مختلف أعمارهم وأجناسهم، هيأ لتشويه بنية الشخصية اليمنية والذات الاجتماعية والطريقة التي يرى بها هؤلاء أنفسهم والقدرة التي يمتلكونها والسلوك الذي يتبعونه في تكوين العلاقات مع الاخرين والحفاظ عليها.

إن جيل الحرب الراهنة في اليمن مقارنة بجيل ما قبل الحرب، هم أقل بمرات عديدة في مقدرتهم على تكوين علاقات عائلية متزنة تتصف بالدفء والحب والحنان. “إن أولئك الذين لديهم علاقات أسرية مفقرة، ولا أصدقاء مقربين لهم، هم أكثر عرضة بعشرة أضعاف للاضطرابات العقلية الحادة من أولئك الذين لديهم العديد من الروابط العائلية والصداقات”. (تقرير الحالة العقلية في العالم عام 2022).

وقد صنّف هذا التقرير اليمن في مرتبة متأخرة جدا من حيث مستوى الصحة العقلية. كما يشير التقرير إلى أن 24.4 في المئة من اليمنيين يعانون صعوبات، مع ضغوط الحياة اليمنية. غير أن المؤشرات التي بني عليها التقرير مقياس  تدهور أو ازدهار الصحة العقلية في الدول محط الدراسة قد ركز على عوامل جامعة للعينة مثل جائحة كورونا، الاستقرار الأسري، نقص الحب والدفء، ولم يضع قصة الحرب الدائرة في اليمن وأثرها في تدهور الصحة العقلية قيد الفحص والتقييم الميداني والطبي. مما يجعل من الاستناد إلى هذا التقرير في وصف حالة الصحة العقلية في اليمن ناقصا.

فأثر هذه الحرب الشرسة ظاهر للعين المجردة في اليمن، من حيث أعداد القتلى الذين بلغوا أكثر من نصف مليون قتيل، ومثلهم وأكثر من الجرحى، والمشردين والمهجرين من بيوتهم واللاجئين في الداخل والخارج الذين يفوق عددهم ستة ملايين شخص، ونسبة الأطفال الذين أصبحوا خارج المدرسة يمثلون نصف من هم في سن المدرسة، والموظفين العموميين الذين لا يستلمون رواتبهم لأكثر من 7 سنوات الذين يزيد عددهم عن مليوني موظف، والعاطلين عن العمل، والمتسولين الذي يملؤون شوارع المدن وهي كلها ترمز إلى مستوى وشدة ونطاق الضغوط النفسية التي ترزح تحت ثقلها غالبية اليمنيين. 

“لقد أظهرت إحدى الدراسات الميدانية لشريحة الأطفال النازحين في المدارس الحكومية في صنعاء مع بداية الحرب ارتفاع درجة المعاناة لهؤلاء الأطفال، ممثلا في انتشار اضطراب ما بعد الصدمة بنسبة مرتفعة، بلغت 79 في المئة، مثل تكرار ذكريات الصدمة، واضطرابات الإعياء، والإجهاد الانفعالي، وضعف القدرة على التعبير عن مشاعر الحزن والفرح، وكذلك ضعف القدرة على التركيز والتحصيل الدراسي، واضطرابات النوم والأحلام المزعجة وتجنب الأماكن والأشياء المرتبطة بظروف الصدمة”(FR24).

لقد أتقن تجار الحروب نقش وجوه اليمنيين ونفوسهم: أطفالهم وكبارهم، نساءهم ورجالهم، شبابهم وكهولهم بألوان البؤس والإملاق، الاكتئاب والقنوط. فانصرف نحو 3 ملايين من أصل سبعة ملايين في سن المدرسة من الأطفال عن التعليم، وأٌجبِر آخرون على الالتحاق بجبهات القتال بما يجعل منهم ألغاما للموت في وجه الحياة، وقنابل موقوتة في وجه السلام والسلم الاجتماعي.

وفقد الكبار وظائفهم ومصادر دخلهم ليغرقوا في أوحال الفقر والجوع وغدوا متسولين في شوارع المدن الكئيبة والطرقات الموحشة. فقدت النساء بعولهن وإخوانهن وأبنائهن الذين قتلوا بأشكال مختلفة أو تشردوا فصاروا بلا عوائل أو ظهير يحميهن من بطش الرجال المضطربين وجبروت أجهزة الأمن والميليشيات المتوحشة التي صادرت حتى مجرد حقوقهن في التعبير والنحيب على ما خسرنه في هذه الحرب اللعينة.

والشباب التائه والعاجز المحبط المشحون بالغضب والانتقام والمفخخ بالأيدولوجيات والمذاهب المتطرفة ومختلف العصبيات التي تحث على الكراهية ضد كل معاني التعايش، والسلم الاجتماعي، والصداقة، والمحبة.

لقد جعلت هذه الحرب بعضا منهم وحوشا شرسة كاسرة تفترس بلا شفقة أو رحمة كل ما تصادفه في طريقها. إن سلوكهم وتصرفاتهم تلك لم تعد تختلف البتة عن سلوك الزواحف التي تلتهم أبناءها وهم أحياء.

وما يزيد الطين بلّة هو الضعف الشديد للمؤسسات الصحية في هذا المجال، بحيث لا يوجد سوي عدد من المراكز الصحية لا تتعدى أصابع اليدين، ونقص الكوادر المتخصصة في المجال النفسي بحيث يوجد واحد فقط لكل 600 ألف نسمة من السكان.

هذا فضلا على أن نصف مؤسسات النظام الصحي في اليمن دمرتها هذه الحرب. بما ألقى بظلال كثيفة وكئيبة وقاسية على مستوى الصحة العقلية في اليمن في اتجاه سلبي متراكم ومتفاقم “وهو ما أدخل غالبية اليمنين في أتون الاكتئاب ودفع آخرين للانتحار” (FR24).

وكانت النساء والأطفال وفئة الشباب أكثر تأثرا نسبيا من غيرهم. كما اشتد الوضع تفاقما واتساعا بصور أكثر مع جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والعواقب الاقتصادية والتمويلية المصاحبة لهم.

والمؤلم حقا أن كثيرا من الخدمات التي تقدمها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري لعشرات الالاف من المحتاجين في عموم الجمهورية مهددة بالخطر، بسبب نفاد مصادر التمويل التي كانت تقدمها بعض الجهات الدولية المانحة وتراجع اهتمامها بقضايا الصحة النفسية. الحكومة الهولندية ومنظمة الصحة العالمية هي الأمل المتبقي لهؤلاء المحتاجين اللذان ظل التزامهما بدعمهم ثابتا مستقرا واهتمامهما بالصحة العقلية في اليمن متواصلا خلال السنوات العشر الأخيرة.

يقفز حتما إلى الواجهة مع كل تلك المعطيات السؤال التالي: كيف يمكن بناء السلام والتنمية المستدامة وثلث سكان البلاد يقاسون أهوال ومرارة الاضطرابات النفسية الحادة؟ وفي سياق المنهج العلمي والفكري المتسق مع الغايات والأهداف، فإن هذا الإنسان المستهدف بالسلام والتنمية هو فاعل ومفعول، ذات وموضوع، غاية وسيلة. فكيف ننتظر لهذا السلام أن يتحقق وللتنمية أن تنجح وتدوم، فيما غالبية سكان هذا البلد تتفشى فيه ظاهرة الاضطرابات النفسية على هذا النطاق الواسع.

من واقع هذه الصورة المأساوية، الكئيبة والحزينة يقتضي من المجتمع الدولي والإقليمي والمنظمات الدولية وفي مقدمتها المنظمات الإقليمية الغائبة حتى اليوم عن هذا الدور، ومنظمات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، العمل للتدخل العاجل والفعال للتصدي لهذه الدراما اليمنية وتأمين الدعم والمساندة لضحاياها، باعتبار ذلك جزءا من مهام وألويات مبادئ حقوق الإنسان، وثانيا من أجل العمل على إدماج هذه الشريحة الواسعة من السكان في المجتمع واعادة تأهيلهم لتكون عنصرا فعالا ونشطا بشكل إيجابي في عملية السلام والتنمية. من غير المتوقع النجاح لأي عملية سلام ومشروعات السلم المجتمعي، ما لم تكن هذه الشريحة الاجتماعية التي يقدر عددها بنحو 10 ملايين شخص ونيف مكونا أساسيا في عملية السلام والسلم الاجتماعي.

سيبقى السلام هشّا وتحت خطر التهديد بالعودة إلى مربع العنف عندما يكون ثلث أعضاء المجتمع دامية نفوسهم وملغومة عقولهم ومشحونة بالانفعالات الشديدة والاضطرابات الحادة إلى درجة العدوانية المميتة في حالات معينة.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى