ارتباك إستراتيجي مصري في البحر الأحمر

> د. هيثم الزبيدي:

> ​عام 2016، احتفل المصريون بتسلم حاملتي المروحيات “جمال عبدالناصر” و”أنور السادات” من فرنسا. الحاملتان من طراز ميسترال، وهو النوع الذي تستخدمه القوات البحرية الفرنسية للتواجد حول العالم. كانت الحاملتان قد بنيتا لصالح روسيا، وتم إلغاء العقد لتصبحا من نصيب مصر.

حاملات المروحيات تمثل المرتبة التي تسبق حاملات الطائرات. امتلاك دولة لمثل هذا النوع من القطع البحرية يعني أنها دولة بطموح عالمي وإسقاطات قوة تسعى لأن يحس بها الجميع. لا معنى لأن تكون لديك حاملة مروحيات إذا كانت سترابط على سواحل البلاد. الأرخص والأفضل هو أن تستخدم الأرض والقواعد الجوية لاستضافة المروحيات والسماح لها بالتحليق. ولبلد مثل مصر بسواحل طويلة على المتوسط والبحر الأحمر، يبدو اقتناء هذه القطع البحرية المكلفة ترفا إذا كان الهدف منها المرابطة في قاعدة بحرية مصرية دون التحرك للقيام بمهام أكبر.

مصر بلد بحري يتحكم في أهم مضيق بحري هو قناة السويس وتمر منه نسبة معتبرة من حركة الملاحة التجارية العالمية، وتبدو القطع البحرية جزءا أساسيا من أمنه القومي ومن خطوط دفاعه المتقدمة التي مهمتها حماية مصالحه. وعلى الورق، وفي القواعد البحرية الكثيرة التي تمتلكها مصر، تبدو القوة البحرية المصرية في موقع متقدم عالميا (تصنّف في المرتبة السابعة عالميا والأولى أفريقيّا)، بقطع بحرية كثيرة ومختلفة (فرقاطات وسفن دعم وإسناد وسفن صواريخ…). لكن المرابطة المستمرة لكل هذه القطع في القواعد البحرية المصرية تجعل من القوة البحرية المصرية قوة خفر سواحل بأسلحة ثقيلة لا تناسب حتى القيام بدور خفارة الساحل.

الخطر ماثل وداهم في جنوب البحر الأحمر منذ سنوات. تمكن الحوثيون من السيطرة على الإطلالة اليمنية على البحر الأحمر، بعد أن حاولوا السيطرة على إطلالة خليج عدن وبحر العرب. أدرك المصريون خطورة المسألة مبكرا، خصوصا مع انطلاقة الحرب في اليمن بقيادة السعودية. لكنهم لسبب مّا قرروا التلويح من بعيد مقدمين أنفسهم كقوة احتياط تتدخل وقت الحاجة ولا تفصلها عن ساحة المعركة إلا “مسافة السكة”. أرسلت مصر في بداية الحرب أربع قطع بحرية إلى منطقة البحر الأحمر في محاولة لاسترضاء الحليف السعودي الذي فهم أن هذا أقصى مدى للمشاركة المصرية في الحرب وتصرف على هذا الأساس.

ما فات المصريين هو أنهم لو تدخلوا في منطقة البحر الأحمر لكانوا قد حموا أمنهم القومي قبل أن يسترضوا الحليف السعودي؛ فالبحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن جزء لا يتجزأ من المجال الحيوي المصري لأن هذه المنافذ التجارية الملاحية هي الجزء الجنوبي من ممر قناة السويس الإستراتيجي. القناة بالطبع هي الرابط الأهم للتجارة العالمية، ولكنها أيضا مصدر الدخل الثاني لمصر بعد تحويلات المغتربين. كيفما قلّبت الأمر ستجد أنه كان على مصر أن تكون حاضرة في تلك المنطقة الحيوية لتشارك في منع سيطرة الحوثيين عليها، أي منع سيطرة إيران.

هذه ليست قراءة مبنية على أزمة راهنة ترتبط بتعرض الحوثيين للسفن العابرة في خليج عدن والبحر الأحمر بحجة نصرة غزة؛ هذه قراءة بدأها الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، الذي -من مفارقات التاريخ- تحمل إحدى حاملات المروحيات المصرية اسمه. عرف عبدالناصر مجالات مصر الحيوية وتصرف على أساسها. البحر الأحمر واليمن كانا في قلب هذه المجالات، وهو ما دفع مصر إلى أن ترسل جيشها إلى اليمن في الستينات، مرة لمساندة النظام الجمهوري الفتي الذي تأسس بعد الانقلاب على الملكية هناك، ومرة أخرى استعدادا للتواجد بشكل سياسي مؤثر في اليمن الجنوبي بعد أن أصبح واضحا أن أيام بريطانيا شرق السويس صارت معدودة. ربحت مصر الحربين في اليمن حينما صمد النظام الجمهوري في الشمال وانتهى التواجد البريطاني في عدن وتأسست جمهورية الجنوب. لكن مصر خسرت حربا أخرى في شمال البحر الأحمر مع إسرائيل، ضاع بسببها الكثير وارتبكت الصورة لما يمكن لمصر أن تقدمه من دور في المنطقة.

حشد المتغيرات في جنوب البحر الأحمر أكبر من قدرة مصر على التعامل معه. علينا أن نتذكر أن مصر لسنوات، في عهد مبارك وما بعده، اختزلت دورها الإقليمي في السيطرة على معبر رفح. ورغم أن مآل الحرب في اليمن كان أمْيَل إلى صالح الحوثيين منذ توقف الهجوم على الحديدة عام 2018، إلا أن مصر تعاملت مع الأمر وكأنه حالة ثبات لن تتغير. فاتتها خلال السنوات الماضية ملاحظة ما وصل إليه الحوثيون من جرأة، وكيف تغيرت الروح القتالية في السعودية إلى الاكتفاء بالخروج بأقل الخسائر. فهم كثير من الفاعلين الإقليميين، دولًا ومجموعات، حجم هذه المتغيرات. إدراك مصر المتأخر أن التغيرات سريعة وتمسها على أكثر من مستوى ومجال، هو الذي جعلها تتعامل مع زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بكل هذا البرود وترسل نظيره المصري سامح شكري، في نفس يوم الزيارة، إلى إريتريا من أجل التوصل إلى صيغة إقليمية للتعامل مع مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال. انتبه المصريون إلى أن السيطرة على ما يمر ولا يمر من معبر رفح، قبل حرب غزة الجارية وأثناءها، ليس بأهمية ما يمر ولا يمر في البحر الأحمر، البحر الشريان من شرايين الحياة لمصر وللعالم.

المشكلة الآن هي أن أي شيء تفعله مصر لا يؤثر كثيرا في ما يحدث في البحر الأحمر. الأساطيل الغربية تجوب المنطقة، وها هي الطائرات الأميركية والبريطانية وصواريخ البوارج والغواصات تضرب الحوثي. حتى الحليف السعودي رد اليوم على سياسة “مسافة السكة” المصرية بسياسة “ضبط النفس” حيال تحرشات الحوثي. مصر التي تملصت من دورها في البحر الأحمر واليمن لسنوات، غير قادرة اليوم على تقديم أي شيء يمكن أن يغير مخرجات الأزمة أو يدفع الفاعلين إلى التراجع؛ فلا هي قادرة على منافسة الأميركيين والبريطانيين في ضرب الحوثي أو تخويفه كي يكف عن استهداف السفن العابرة، وليس بوسعها أن تؤثر على إثيوبيا أو أرض الصومال أو الصومال أو إريتريا بما يكفي لتغيير الخرائط الجديدة للقرن الأفريقي، دع عنك التأثير على ما يمكن أن يحدث في السودان.

لا نعرف إن كانت مصر ستتحرك أم لا، وما إذا كان تحركها -إنْ تحركت- سيكون مؤثرا بالأساس. لكن المؤشرات ليست في صالحها، وعلامات الارتباك أكثر من واضحة. آخر مرة سمعنا فيها عن تحرك لإحدى حاملتي المروحيات المصرية، هي تلك التي أرسلت فيها حاملة المروحيات إلى سواحل درنة في مهمة إنقاذ بعد أن ضرب الإعصار المدينة وهدم سدودها وأغرقها بالمياه والطين. من المؤكّد أن إرسال حاملة مروحيات قتالية إلى مهمة إسعاف ليس من دلالات إسقاطات القوة والحضور الإقليمي والتأثير على الأحداث. القاهرة تتصرف بخوف مَن لا يريد أن يفلت صاروخ حوثي أو مسيّرة ويضرب -أو تضرب المسيرة- قطعة بحرية كبيرة مما تملكه مصر. فبالنسبة إليها أن ترسو القطعة محروسة في قاعدة بحرية بعيدة عن المشاكل أفضل من أن تُضرب أو تَغرق.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى