فرص تطوير العلاقات بين مصر وتركيا

> محمد أبوالفضل:

>
​تفاءل كثيرون بتصريحات إيجابية صدرت حول زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى القاهرة الأيام المقبلة، باعتبارها زيارة تأتي تتويجا لعدد من اللقاءات بينه ونظيره المصري عبدالفتاح السيسي في قطر والهند والسعودية، وتؤكد أن جانبا مهما من القضايا الخلافية طوي. وجاء حديث وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عن تصدير طائرات مسيرة إلى مصر ليضفي طابعا عسكريا على العلاقات بين البلدين.

تعزز الزيارة المنتظرة لأردوغان حديث الفرص بين القاهرة وأنقرة بعد تيقنهما من أن التجاذبات التي طغت على علاقتهما في السنوات الماضية يجب تجاوزها، والاتجاه إلى العمل بصيغة تصفير المشكلات التي تتبناها مصر منذ فترة وعادت إليها تركيا مرة أخرى، إذ يمكن أن تُحَوِّل الخلاف إلى تعاون والصراع إلى وفاق. وباتت قيادتاهما على يقين من أن الخلاف أو الصراع لم يحققا أهدافهما، كما أن ورقة الإخوان الرئيسية في يد تركيا سقطت والتمسك بها يلحق بها المزيد من الأضرار.

تخطت مصر وتركيا مرحلة الخوف من ظهور مطبات. وقدمت كل منهما إلى الأخرى تطمينات تجعلها أكثر ثقة. وقد استغرقت اجتماعات تمت في القاهرة وأنقرة على مستويات متباينة وقتا كي تنضج الظروف وتصل إلى المربع الذي يسمح بالإعلان عن عقد لقاء مؤجل بين السيسي وأردوغان، جرى تأجيله أكثر من مرة وتغير مكانه ليكون مثمرا.

لم تشهد العلاقات بين البلدين تعاونا إستراتيجيا منذ انسلخت مصر عن جسم الخلافة العثمانية قبل نحو قرن من الزمان، لكنها لم تشهد أيضا صراعا ممتدا. والخلافات التي نشبت على مدار عقود ماضية لم تجرف في طريقها ثوابت الهدوء والتعاون والروابط المثمرة، باستثناء الفترة التي اعتلى فيها الإسلام السياسي وقيادة حزب العدالة والتنمية سدة الحكم في تركيا، حيث اعتقد الحزب أن دعم الإخوان في القاهرة يمثل كماشة لأعداء أنقرة في المنطقة. وعندما توارى هذا التوجه مع سقوط حكم الإخوان تمسك أردوغان باستنهاضه، وبعد أن تأكد من الفشل أعد المسرح نحو استدارة كاملة إلى مصر.

قد تتطور العلاقات ويتسع أفقها بين البلدين، لكن وصولها إلى مستوى متقدم من التحالف عملية صعبة. ومهما كانت أشكال التعاون العسكري بينهما لن تتجاوز الصفقات والأبعاد التجارية، لأن المسافة السياسية بين النظامين الحاكمين شاسعة.

كما أن التهدئة ثم التعاون وتسوية القضايا العالقة كل ذلك لا يعني الدخول في علاقة تصعد إلى المستوى الحيوي والإستراتيجي؛ فالبعد البراغماتي الذي يخيم على تفكير أردوغان يجعل السيسي أكثر تريثا وغير مطمئن إلى نواياه الخفية، ذلك أن علاقته بجماعة الإخوان خفتت في العلن، غير أنها لم تمح في أدبيات حزب العدالة والتنمية.

تتراكم الفرص المتاحة، وتأتي من رحم زاويتين. الأولى السعي للتفاهم حول قواسم مشتركة في قضايا محددة، يتحول التعاون فيها إلى فائدة متبادلة لكليهما، في مقدمتها ملف الغاز في شرق البحر المتوسط، وهو وثيق الصلة بعملية ترسيم الحدود البحرية المعلقة بين البلدين اللذين لن يعدما فك شفرتها إذا وجدت الأجواء المناسبة للتطرق إليها. فالخلاف حولها شبه محسوم، ويمكن تجاوزه بقليل من التضحيات، والمشكلة في انعكاس هذه القضية على علاقات مصر مع كل من اليونان وقبرص، وجرى ترسيم الحدود معهما وفقا للقانون الدولي، بينما وضعت تركيا خطوطا حمراء لحدودها معهما.

أما الزاوية الثانية فتتعلق بالأزمة الليبية التي ظهرت مؤشرات توحي بأن اللجوء إلى قاعدة المصالح المشتركة يمكن أن يحقق نتائج إيجابية بين الطرفين، لأن استمرار الصراع قد تكون نتائجه كارثية عليهما أيضا. ولن يحرز التعاون مراميه إلا في ظل تطوير مقنع للعلاقات بينهما؛ فكلاهما لديه من الأدوات القوية ما يمكّنه من حرمان الآخر من الحصول على مزايا اقتصادية وسياسية وأمنية تصب في بنك أهدافه.

يتوقف استثمار الفرص على قدرة كل طرف على تجاوز مرارات الماضي وتأكيد حسن النوايا بصورة عملية، خاصة من قبل الجانب التركي الذي يجيد فن المناورة والمراوغة، ويلجأ إلى الانحناء كثيرا للعواصف وقت الأزمات، ثم يعود إلى عاداته السابقة عقب تخطيها مباشرة، وعليه أن يقدم أدلة تعزز الثقة فيه، لأن تعامل القاهرة بتوجس وتردد وحذر لن يحقق مردودات سياسية يتمناها الطرفان.

تعد فرص التعاون مواتية على مستويات متعددة، ربما لا ترقى إلى الشق الإستراتيجي في هذه المرحلة، لكن ثمة قواسم يمكن البناء عليها تدريجيا في كل من الصومال والسودان. وما رشح من مواقف عبرت عنها أنقرة في مرات عدة حيال التعامل مع بعض التطورات في هذين البلدين يشير إلى وجود تلاقٍ مع القاهرة يحتاج إلى تقنين ووضع أسس للتعاون بينهما؛ فالتصرفات المنفردة من كلتيْهما لن تؤتي أكلها.

تستند هذه النوعية من الفرص على حسابات كل دولة في المرحلة المقبلة. وهناك توافق تلقائي يمكن تطويره بآخر يتم التخطيط له، ليس بالضرورة أن تكون محدداته خشنة. فالمكونات المرنة يمكن أن تكون أكثر جدوى وتأثيرا. وهي واحدة من الصفات التي تميل إليها مصر ولا تفضلها تركيا أحيانا. والوصول إلى تفاهم حول تصعيد المرونة على الخشونة يفتح الباب لتسوية جدية لبعض الأزمات المعقدة، ويخرجها من إطارها الصفري الذي تمسكت به تركيا لفترة ولم يحقق لها النتائج المرجوة.

يمكن تعظيم فرص التعاون بأدوات مختلفة إذا كانت الأرضية التي ينطلق منها ممهدة. وفي الحالة المصرية – التركية تجري عملية تمهيد سريعة بلا تجريف. وثمة عدة دول تميل إلى هذا الاتجاه بدلا من الصراع المرهق لدول راغبة في مواصلة مشروعاتها التنموية. ولدى كل من القاهرة وأنقرة ما يمكن إنجازه في هذه المجالات التي لا تستطيع بطبعها تحمل المزيد من الإرهاق المادي والاستنزاف المعنوي.

ربما تمر المنطقة بتحولات متلاحقة. ويمكن أن تقذف الحرب على غزة بكثير من حممها التي تؤثر على مصالح البلدين. وستكون مواجهة التحديات أفضل لهما عندما يكون التعاون بينهما جيدا. فتركيا لم تتخل عن طموحها في الشرق الأوسط كفضاء يستوعب حركتها كقوة مؤثرة. ومصر تقاوم التهميش، ولا تريد أن تكون أزماتها الداخلية كابحا لتطلعاتها الإقليمية أو تتحول خلافاتها مع تركيا إلى معرقل لتطلعاتها.

سوف تصبح الحرارة مناسبة لتطوير العلاقات، عندما تؤمن مصر وتركيا بأن مواجهة التغيرات التي تمر بها المنطقة وهما على وفاق تام أفضل من الشقاق، وتخطي القضايا الخلافية لن يكتمل إلا إذا تم تحويل أنصاف الفرص إلى فرص حقيقية.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى