جنوب البحر الأحمر أمن قومي مصري

> تظل أهمية هذا الممر المائي الحيوي، مضيق باب المندب، شاهدًا على جدلية العلاقة بين الجغرافيا والتاريخ، مع التأكيد على أن الجغرافيا هي صانعة المحددات الأساسية لصعود قوى أو خفوتها في مساق التبدلات الأساسية، اجتماعية وسياسية واقتصادية، في العالم (كتاب عالم المعرفة: انتقام الجغرافيا، يناير 2015م الكويت).

لكن للتاريخ سطوته أيضًا فالجغرافيا بدونه خرساء تمامًا. في التاريخ الحديث تبرز أهمية المضيق ولؤلؤته الناصعة جزيرة ميون أو(بريم) كما يطلق عليها الغرب. دون أن يعني ذلك انعدام الأهمية في التاريخ القديم والوسيط.

ففي القرن 19، قرن الحركة الاستعمارية الغربية بجدارة، كانت ميون الجزيرة ذات قيمة بالغة بالنسبة لدرة التاج البريطاني الهند. و كان أمراء البحر الإنجليز يدركون أهميتها في كبت تطلعات نابليون بونابرت في التمدد جنوبًا في المياه الدافئة في المحيط الهندي، بعد أن تمت له السيطرة الكاملة على مصر عام 1798م، فاحتلوا مباشرة ميون وأقاموا تحصيناتهم العسكرية فيها، قبل أن يحتلوا عدن بأربعين عامًا تقريبًا.

وهذا دليل على أهمية جنوب البحر الأحمر ومضيقه، وميون في معطيات الأمن القومي لمصر، بغض النظر عن السياسة القائمة وطبيعة الحكم في هذا البلد.

لقد أدرك ذلك قبلًا المماليك والأتراك العثمانيون وأسرة محمد علي باشا لاحقًا. ومما له دلالته أن حامية ميون و(جبل الشيخ سعيد) العثمانية لعبت دورًا في وقائع الحرب العالمية الأولى 1914- 1918م، وكان قائد حاميتها قد علم باستسلام العثمانيين للإنجليز في أوروبا نهاية تلك الحرب، وأبلغ ذلك للقائد علي سعيد باشا قائد الحملة العثمانية على لحج، قبل أن يتسلم الأخير وثيقة الاستسلام من الإنجليز أنفسهم، الذين أرسلوها بسرية تامة مع الشيخ العبدلي عبدالله علي البان (إن لم تخن الذاكرة في دقة الاسم).

وكانت قد تضاعفت أهمية هذا الممر مع افتتاح قناة السويس عام 1869م، مما جعل سلاسل الوصول إلى الهند مهيأة و انسيابية في صالح الإنجليز أكثر من غيرهم، وتزداد الفائدة بوجود عدن تحت سيطرتهم منذ احتلالها عام 1839م من قبل الإنجليز، مما يعني هيمنة مطلقة على أهم بحار الشرق ونقاط ارتكازه على المياه المالحة، وصولًا إلى أوروبا إذا أدركنا حاجة الغرب لثروات وخامات الشرق.

وكان بإمكان الإنجليز، بعيدًا عن الحصافة المعروفة عنهم أن يخوضوا حربًا خاسرة ضد مصر، بعد أن أمم الزعيم الخالد جمال عبدالناصر قناة السويس عام 1956م، لتبدأ حقبة طي صفحة الاستعمار البريطاني وبزوغ قوى عالمية جديدة، على رأسها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، دون أن يعني ذلك اختفاء الإنجليز من اللعب المؤثر سياسيًا على مستوى العالم، وأن من تحت العباءة الأمريكية إلى حين يتسنى لهم العودة إلى إرثهم الاستعماري الذي دام لقرنين من الزمان.

وعندما تكتظ مياه البحر الأحمر وعلى مقربة من جزيرة ميون بعشرات السفن والأساطيل الحربية، لحماية هذا الممر من صواريخ الحوثيين التي ذهبت إلى الشمال، إلى فلسطين لمؤازرة المقاومة في غزة، نظريًا على الأقل، لأنها واقعيًا لم تؤثر في شيء من مجريات الأحداث هناك، وإنما كانت سببًا في التزاحم الغربي عن طريق عسكرة البحر الأحمر، لحماية مسار خطوط الملاحة الدولية ظاهريًا، بينما يختفى وراء ذلك منافسة الصين و سواها في هذا البحر، وتهديد الأمن القومي لمصر من الجنوب كجبهة مضطربة أخرى، تضاف إلى التهديدات المقلقة في حدود مصر الجنوبية من أثيوبيا وما ستؤول إليه الأوضاع في السودان، مع تهديدات قائمة في حدود مصر الشرقية مع ليبيا.

إن المتابع الحصيف سوف يستنتج بسهولة أن أحداث غزة هي مؤامرة صهيونية أمريكية بريطانية في الأساس، للإضرار بالأمن القومي لمصر، ووضع مصر في زاوية ضيقة لا تستطيع فيها سوى قبول تهجير الفلسطينيين إلى سيناء المصرية، وإنهاك مصر وتركيعها بعد أن أسقطت المؤامرة الكبرى المسماة بالربيع العربي قبل عقد من الآن.

ولذلك فإن من يتخذ خطوات أيًا كانت شعاراته المرفوعة لتحشيد الغرب في جنوب البحر الأحمر، المجال الحيوي للأمن القومي المصري، وكذلك من صرحوا أنهم مع هذا الحشد الغربي، وأبدوا الاستعداد للانضمام إلى ما سمي بالتحالف الدولي في البحر الأحمر، إنما هم يقعون في براثن مخطط خطير، غايته الإضرار بمصر التي ما كانت يومًا إلا رمانة ميزان الأمن القومي العربي برمته، وبسقوطها سيسقط الوطن العربي بيد الاستعماريين الجدد.

وبقاء مصر منيعة عزيزة وقوية، وأن تكون هي حارسة العرب من أي انتكاسات محتملة هدف قومي وديني لكل عربي.

ولذلك أدركت الشقيقة المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج العربي أبعاد ذلك المخطط الاستعماري الخطير، ولم تنسق إلى الدخول في فلك ما سمي بالتحالف الدولي في البحر الأحمر.

وعلينا الاستعداد بالقوة العسكرية لتدعيم مواقعنا في المضيق والجزيرة السرة الرخوة لبلادنا، مع التنسيق والتخطيط مع مصر و دول التحالف.

إن مصر تدرك أبعاد هذه المؤامرة واستعدت لذلك مذ سنوات بقوة عسكرية جبارة و بحرية مصرية هي الأقوى في منطقة الشرق الأوسط. ولكن ينبغي دعم مصر في كل المجالات عسكرية كانت أو اقتصادية، وخاصة من إخوتنا في الخليج العربي، و ضخ الأموال، لإنعاش الاقتصاد المصري، وتفويت الفرصة على أعداء مصر والأمة العربية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى