مصر أمام خيارين: أن تكون محورية أو متراجعة

> محمد أبوالفضل:

> ​تشير مجموعة من التطورات التي تمر بها المنطقة، وفي مقدمتها تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إلى أن هناك واقعا جديدا سوف يتبلور خلال المرحلة المقبلة، قد تصعد فيه قوى إقليمية وتخفت أخرى، بناء على ما يمكن أن تفرزه الحرب من واقع جديد، وتوازنات ناجمة عن النتائج التي ستنتهي إليها، وقدرة الأطراف الفاعلة على تدشينها، وربما تكون بعض جوانبها ضد مصالح دول مهمة.

يمكن النظر إلى حالة مصر مع هذه التطورات من زاويتين، الأولى: أنها في وضع متراجع عمّا كانت عليه، وتحتاج التوصل إلى مصفوفة سياسية تساعدها على استعادة بريقها، وعدم التفريط في دورها الإقليمي الذي بنته عبر عقود طويلة قبل أن يتم تقويضه بحكم التطورات المتلاحقة، والثانية: أنها دولة محورية، على الرغم من تراجع تأثيرها وتعثر خطواتها، بالتالي يصعب أن تترك مكانتها لغيرها أو تقبل بالنتائج القاتمة لحرب غزة، والتي قد تكون متعارضة مع أهدافها الإستراتيجية.

أصبح المصريون أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يكونوا فاعلين أو متراجعين، فقد كشفت عملية إنشاء ميناء لإدخال المساعدات إلى غزة عبر البحر المتوسط، وخططت لها الولايات المتحدة بالتحالف مع إسرائيل والتعاون مع دول عديدة، أن أول ارتدادات الخطوة هي تقليص دور معبر رفح، وبالطبع دور مصر، لأن هذا المعبر لم يكن فقط بوابة لمرور المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، بل كان بوابة سياسية وأمنية لانخراط القاهرة أيضا في الكثير من الجوانب التي تهم القضية الفلسطينية، وتجميده أو تقزيمه له انعكاسات على هذا المسار، وهو ما التفتت إليه مصر وبدأت تظهر امتعاضها، فالخطوة تنطوي على تحميلها جزءا من مسؤولية تعثر المساعدات، وتبييض وجه إسرائيل أمام المجتمع الدولي بسبب تجاوبها مع أهداف الميناء.

لتكون مصر محورية وفاعلة ومؤثرة، عليها التخلي عن حذرها الذي ظهر في الكثير من الخطوات خلال السنوات الماضية، ومرت فيها البلاد بتحديات أمنية داخلية صعبة، كان مفهوما التركيز عليها ومواجهتها وتجاوزها، وتزامن ذلك مع اتساع نطاق الأزمات الإقليمية التي لها علاقة مباشرة بالأمن القومي المصري، من ليبيا إلى السودان، ومن إثيوبيا إلى غزة، وأضيفت إليهم التوترات المتصاعدة في جنوب البحر الأحمر وما تحمله من تهديدات لممر قناة السويس ومكانة القاهرة في المنطقة.

تعاملت مصر مع الأزمات الإقليمية المتنوعة بقدر عال من الحذر لتفويت الفرصة على إصابتها مباشرة، وصبرت على بعض القضايا التي تهمّها حتى تسرّب آخرون وعبثوا بها وقبضوا على بعض مفاتيحها الرئيسية، فبدأت القاهرة في حالة ملاحقة لهؤلاء في كل الأماكن التي تهمّها، فهي تعلم أن التسليم بإرادتهم التي تتعارض مع مصالحها أو القبول بفرض أمر واقع عليها يسير في اتجاه معاكس لدورها التاريخي.

أحد الدروس التي يتعلمها طلبة العلوم السياسية والعسكرية في مصر، هي أن أمنها القومي يبدأ من الخارج وليس الداخل، وأيّ حاكم مهما بلغت جماهيريته لن يتمكن من التخلي عن العبر التي يحملها هذا الدرس، وإذا تصوّر أنه قادر على الجمع بين الانكفاء وحيوية الدور سيكتشف خطأ رؤيته، وإذا اعتقد أن الحذر الزائد يساعده على جني ثمار ومكاسب بلا دفع تكاليف سيكون مخطئا أيضا، فلا دور إقليميا من دون أثمان باهظة، ولا تأثير معتبرا في عدم وجود رؤية إستراتيجية متكاملة.

لدى مصر تفاصيل عن الكثير من القضايا والمشروعات والمخططات الإقليمية، لكن انهماك أجهزتها في التفاصيل جاء على حساب الرؤية الشاملة وامتلاك زمام المبادرة، فبدأت الكثير من التصرفات السياسية تبدو أقرب إلى ردود أفعال، وحتى امتلاك الرؤية والمبادرة أحيانا لم يتم توظيفهما بالصورة الكافية، التي تجعل القاهرة رقما مهما في الكثير من التوازنات الجارية، فالعكس هو الصحيح، فعدد كبير من الترتيبات التي يتم التجهيز لها في المنطقة غابت عنها مصر بشكل متعمّد.

لم يعد خافيا أن هناك من يريدون القيام بتحولات في توازنات القوى في منطقة الشرق الأوسط، ورسم خرائط جديدة لا تصبح فيها مصر دولة مركزية وتؤثر في التطورات، وتكون لها كلمة فصل في بعض القضايا، ولن يحالف هذا التوجه نجاحا إذا كانت مصر قادرة على التعامل مع ما يجري حولها من تطورات وهي في موقف قوة وليس إنهاكا اقتصاديا أو استنزافا سياسيا وعسكريا.
تؤكد أمور كثيرة أن القاهرة واعية لمغبة الاستنزاف من خلال التفاعل السياسي مع التحرّكات المتلاحقة في قلبها أو على هامشها، وتجنب الدخول في مواجهات عسكرية، لكن الإنهاك الاقتصادي حدث فعلا وتحاول التغلب عليه بطرق مختلفة.

تتوقف درجة المقاومة في حالتي الاستنزاف والإنهاك على ما يتحقق من نتائج ملموسة، فلا يكفي الحضور السياسي والابتعاد عن دخول حروب للحفاظ على القوة المعنوية والمادية، ولا يكفي جذب استثمارات ورؤوس أموال بلا إصلاح هيكلي حقيقي للقول إن البلاد تجاوزت أزمتها الاقتصادية.

تتطلب محورية الدور اشتباكا ومجازفة أحيانا، فهو يُنزع ولا يُكتسب بحكم الميراث، ومصر لم تبذل ما يكفي لتأكيد مركزيتها بالمنطقة وفضّلت الانتظار طويلا، في توقيت بالغ الحساسية يتطلب الدخول في مغامرات محسوبة وامتلاك عدد كاف من الأوراق التي تسهم في تعزيز المحورية، لأن إدارة بعض الأزمات تسير في غير صالحها، وكأنها هي الهدف في الكثير منها، أو أن مؤامرة تحاك عليها لتهميشها.

يرى بعض المصريين أنه ليس صدفة عندما تنجح قيادتهم في تجاوز واحدة من العقبات الأمنية الداخلية في حربها ضد الإرهاب والمتطرفين، أن تتكاتف عليهم حروب متفاقمة في كل من ليبيا والسودان وغزة وجنوب البحر الأحمر، ناهيك عن سد النهضة الإثيوبي وما يمثّله من انعكاسات على الأمن المائي لمصر.

بافتراض أن كل ذلك صدفة وليس مؤامرة على القاهرة الاعتراف أن بعض التصورات الخاطئة المتعلقة بالمبالغة في الصبر والحذر والتريث أسهمت في التراجع، بما أغرى قوى على التفكير في تقليص دورها عبر التفكير في بدائل تبعدها عن أهم قضية في المنطقة اشتبكت معها حربا أو سلما، وهي القضية الفلسطينية، واستخدمت في ذلك ذرائع عدة، يتوقف تأثيرها سلبا على استعداد القاهرة للاستسلام أو المقاومة.

لا ينسجم الاستسلام مع الطبيعة المصرية، ومهما كانت قيادتها تعتقد أن التوجهات الهادئة تضمن لها أمن واستقرار ووحدة الدولة، فهذه المعاني يصعب الحفاظ عليها في ظل انكفاء ناجم حذر أو انحناء للعواصف، لأن الأخيرة لن تتوقف، فكل انحناءة قد تأتي وراءها أخرى، وهذا يتنافى مع دور القاهرة الذي يجب أن يستمر، فقبول المصريين بالتنازل عن مكانتهم الإقليمية قد يكون مقدمة لتراجعات أشد وطأة.
العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى