الطرق الحديثة لبناء دولة القانون في "حالة الوحدة أو الانفصال"

> الدولة هي منظمة سياسية إقليمية ذات سيادة ولديها جهاز خاص لتنفيذ مهام الحماية والإدارة والدعم وهي قادرة على جعل أوامرها إلزامية لجميع المواطنين الذين يعيشون في البلاد وتطوير المجتمع على أساس سيادة القانون.

في الوقت الحاضر يتم تنفيذ عملية بناء الدولة في ظروف تلعب فيها عوامل السياسة الخارجية دورًا أكثر أهمية في تحديد الاستراتيجية اليمنية في ذلك، وحجم التغييرات التي تحدث في العالم، والتي تؤثر بشكل مباشر على وضع الجمهورية اليمنية من جميع النواحي تجبرنا على البحث عن أساليب جديدة لحل المهام والمشاكل التي تواجه البلاد وإعادة بنائها بشكل شرعي وذات وجه سياسي واجتماعي محدد بوضوح "بقاء الوحدة أو الانفصال".

تعلمنا التجربة العالمية في القرن الماضي إن دوائر النخبة تقود البلاد لمدة تتراوح بين 25 و 3 عامًا في المتوسط، وتتوقف عن خدمة الشعب عندما تستنفد إمكاناتها الإصلاحية، ويتم استبدالها بقوة جديدة تتمتع بالمعرفة والإرادة اللازمة لإجراء تغييرات عاجلة تعمل على تحسين كفاءة الدولة ومؤسساتها و رفاهية السكان.

حاليًا يجب على النخبة الحاكمة اليمنية من أجل ضمان التعافي السياسي والاقتصادي والاجتماعي القوي للبلاد والاستجابة بشكل مناسب للتحديات الخارجية المرتبطة بتسريع التطور التكنولوجي للاقتصاد العالمي وتفاقم المشكلات الجيوسياسية، أن تحل المشكلات واسعة النطاق، والتي تتمثل من ناحية في تعزيز حضور الدولة وهيبتها وإنشاء اقتصاد عالي الإنتاجية يضمن مستوى عالٍ من الرفاهية للشعب، وتعزيز سيادة الدولة والأمن القومي للبلاد و من ناحية أخرى توطيد الوضع الجيوسياسي.

الطريقة الوحيدة الممكنة لحل هذه التحديات يكمن في "التحديث"، الذي جوهره بناء دولة فعالة تضمن امتثال الجميع للقانون دون استثناء وتحل بشكل فعال المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من المشاكل الناشئة وأولها في خلق اقتصاد عالي الإنتاجية يضمن مستوى معيشي مرتفع للشعب وتكوين طبقة وسطى ضخمة، تكون بمثابة الأساس الاجتماعي لمجتمع مدني قوي، وثانيًا بناء قوات مسلحة قوية قادرة على فرض الأمن وهيبة الدولة وسيادتها.

الدولة العاجزة هي عائق أمام نهضة البلاد، وتاريخ البلاد بشطريه الممتد لقرون يشير إلى أنه لم تكن هناك أبدًا دولة تضمن سيادة القانون متساويًا للجميع وضمان الحياة الكريمة والتنمية الحرة للناس، لأن الولاءات والانقسامات السياسية والاجتماعية على الأسس المناطقية والقبلية كانت الحاجز القوي لبناء دولة الجميع في الشطرين.

اليوم من الجيد مراجعة الأخطاء التي أدت إلى سقوط البلاد إلى هذا المستوى الكارثي في المعيشة والأمن، فهناك العديد من المسؤولين الذين يحاولون تجنب تحمل المسؤولية وإخفاء عدم كفاءتهم ويتصرفون في الواقع بطريقة التقليد، كما أن السلطة التشريعية غير فعالة وتواجه صعوبات مختلفة، وكثيرًا ما كانت في السابق تصدر قوانين ذات تفسيرات مزدوجة تساهم في خلق حالة فساد وفوضى، بينما تحولت السلطة القضائية، التي أصبحت مغلقة أمام الرقابة القضائية والمجتمعية العامة وتتمتع بالحماية الدستورية إلى جمعية مغلقة، كثيرًا ما تتخذ فيها قرارات غير عادلة، كل نقاط الضعف هذه لا تعيق إنشاء دولة فعالة فحسب، بل تقوض أيضًا أسس العدالة والأمن.

النخبة الحاكمة في أي دولة هي القوة الدافعة وراء التغييرات في البلاد، والجمهورية اليمنية بحاجة إلى تغيرات جذرية شجاعة بسببها، أنا أتحدث بشكل أساسي عن إعادة تنظيم نظام العلاقات الاجتماعية بين الدولة والشعب، إذ لا يمكن للدولة أن تعطي أقصى قدر من الكفاءة، وأن تصبح قوية اقتصاديًا وأمنيًا إلا مع ظهور نخبة حاكمة ذات توجه وطني، لذلك يجب أن تضع قواعد سلوك صارمة جديدة للنخبة الحاكمة لتصبح ذات "سيادة" وذات توجه وطني تعمل بشفافية، لأن الشفافية هي أكبر مصدر لبناء دولة فعالة، إذ لا يمكن تحقيق مساءلة المسؤولين عن القرارات التي يتخذونها، والإجراءات التي يقومون بها إلا من خلال نظام الشفافية على جميع أنشطتهم.

يجب أن نفهم الشفافية بمعنى حرية وصول المواطنين إلى معلومات كاملة ومنتظمة وموثوقة وفي الوقت المناسب، حول أنشطة هيئات الدولة والحكومات المحلية ومسؤوليها، هنا يمكن أن تلعب التقنيات الرقمية الحديثة الدور الرئيسي في ذلك، وبالاشتراك مع استخدامها ومع استخدام الآليات السياسية والقانونية للشفافية ستتمكن سلطة الدولة تحت الرقابة المستمرة للمجتمع من أداء وظائفها بفعالية.

إن تحديث الإدارة العامة في البلاد لابد أن يتم في العديد من المجالات الأكثر أهمية، والانطلاقة تبدأ من "الحكومة الإلكترونية"، وتعني فكرة تشكيل الحكومة الإلكترونية، تشكيل نظام من التدابير مثل أتمتة عمليات الإدارة ومحاسبتها ومراقبتها، وضمان توافر المعلومات، وإنشاء أنظمة معلومات موحدة الموارد مع أوضاع الوصول المختلفة، ويهدف تحديث هذه الجوانب من نظام الإدارة العامة إلى زيادة كفاءة تنفيذ المهام التنفيذية للهيئات الحكومية، فالحكومة الإلكترونية لم تصبح بعد برنامجًا وطنيًا ذا أولوية في الجمهورية اليمنية، كشبكة من المراكز متعددة الوظائف مقترنة بنظام بوابات الخدمة العامة، لتحسين التفاعل بين السلطات الثلاث والمجتمع، ومكافحة الفساد، والإدارة والميزنة على أساس نتائج الأداء لتحسين الخدمة العامة، كذلك تطوير آليات المشاركة المدنية والرقابة العامة.

للأسف الأوضاع في البلاد بحاجة كبيرة للتعديلات والإصلاحات، وأهمها:

أولًا: تشكيل حكومة إليكترونية وهو شكل جديد لتنظيم أنشطة السلطات العامة، حيث تقلل الحكومة الإليكترونية من تأثير الموقع الجغرافي للمواطنين والاتصال البشري المباشر، وذلك من أجل مكافحة الفساد، كذلك يتم من خلالها الاستخدام الواسع النطاق لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتوفر مستوى جديد نوعيًا وعاليًا من الكفاءة والراحة للمنظمات والمواطنين في الحصول على الخدمات العامة والمعلومات حول نتائج أنشطة الدولة وشفافية الإجراءات الحكومية.

ثانيًا: الإشارة الإلزامية لأسماء كل الأشخاص الذين يصيغون القرارات، أي المسؤولين الذين أعدوا مسودات القرارات والأشخاص الذين اعتمدوها (بما في ذلك بشكل جماعي) في الهيئات الحكومية والتنفيذية والتشريعية والسلطة القضائية والحكومات المحلية، مما يزيد من مستوى مسؤولية شاغلي الوظائف العليا ويساهم في زيادة كفاءتهم.

ثالثًا: جميع القرارات التي اتخذتها سلطات الدولة وهيئات الحكم المحلية لا تدخل حيز التنفيذ إلا بعد نشرها على الإنترنت الموجود في وسائل الإعلام ذات الصلة، وذلك لأن تأثير هذه القواعد ونشر القرارات المتخذة سوف يستلزم زيادة في المسؤولية الشخصية، وبالتالي مستوى كفاءة القضاة والنواب والمسؤولين وغيرهم من ممثلي سلطات الدولة.

رابعًا: ضمان أن تكون جميع المعلومات المتعلقة بأنشطة هيئات الدولة موثوقة وفي الوقت المناسب، منتظمة ومحدثة باستمرار وسيسمح تأثير هذه القاعدة للمواطنين والمنظمات العامة والمجتمع بأكمله لممارسة الرقابة واسعة النطاق على أنشطة الهيئات الحكومية.

خامسًا: وضع قاعدة تشريعية يُطلب بموجبها من جميع سلطات الدولة والحكومات المحلية أن تقدم للجمهور معلومات كاملة عن أنشطتها، باستثناء تلك القائمة التي يحددها القانون عند حدود أسرار الدولة.

لا يمكن للجمهورية اليمنية أن توجد إلا كدولة ذات سيادة ولن تتمكن سوى النخبة الحاكمة المستنيرة ذات التوجه الوطني من تنفيذ التحولات الضرورية في البلاد، ودون سيادة البلاد الكاملة لن تتمكن أي نخبة من تأسيس دولة فعالة أو إجراء تغيير جذري في هيكل ومبادئ العلاقات بين الدولة والشعب، لذلك جوهر التغييرات يجب أن يبدأ من بوابة إدخال آليات الشفافية السياسية والقانونية في نظام العلاقات الحكومية، حيث ستلعب التقنيات الرقمية الدور الأكبر في ذلك.



لماذا لابد من دور فعال للتقنيات الرقمية في تحديث وبناء البلاد؟

فقط التطوير المكثف والمتواصل لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في البلاد، يجعل من الممكن الاستخدام الفعال للتكنولوجيات الرقمية في تحديث البلاد، وفي هذا الصدد أقترح إنشاء مراقبة إلكترونية مباشرة (فورية) للمواطنين على شبكة الإنترنت، في شكل بوابة خاصة بموارد رقمية، لإتاحة الفرصة للمواطنين والمنظمات المجتمعية للرقابة على أنشطة الهيئات الحكومية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون.

كما يجب فتح "نافذة" إلكترونية على أعمال السلطة القضائية، وخاصة المحاكم التي أصدرت قرارات وأحكامًا مجحفة دخلت حيز التنفيذ، قد يكون هناك طلب كبير أيضًا على"نافذة" حول قضايا الفساد والضغط من قبل الساسة والنافذين والتجار، والاستيلاء على الممتلكات من قبل المسؤولين والموظفين عديمي الضمير وموظفي إنفاذ القانون.

ومما له نفس القدر من الأهمية إنشاء"نوافذ" لتنظيم عملية الانتخابات الشرعية، وحل المشاكل الأمنية والبيئية والتعليم والرعاية الطبية، وإصلاح الطرق والمدارس والكليات والجامعات وبناء المساكن...الخ.

سيسمح استخدام التقنيات الرقمية للمواطنين بالإبلاغ بسرعة وفي الوقت المناسب عن انتهاكات القانون، وتلقي الدعم في حالات انتهاك حقوقهم والتعدي على مصالحهم، وأنا هنا لا أتحدث هنا عن نظام للسيطرة المجتمعية على ما يحدث في مختلف مجالات النشاط الحكومي، بل عن مساعدة إضافية لمسؤولي الوزارات والهيئات الحكومية ذات الصلة، إذ سيمنح البلاغ المباشر بالمشكلات للمسؤولين بتنسيقات مباشرة مع المواطنين، وتجاوز الكثير من المديرين الفاسدين والبيروقراطيين.

ستمنح الرقابة العامة الإلكترونية لعموم البلاد المجتمع الفرصة، لنشر معلومات عامة حول انتهاكات حقوق وحريات المواطنين ومصالحهم، والأهم من ذلك، ضمان النظر في القضايا الناشئة على أساس أولوياتها، كما إن أنشطة هذه المراقبة في المقام الأول ستجبر موظفي الدولة على أداء واجباتهم بمسؤولية وكفاءة، وبالتالي فإنه سيحمي المواطنين من قرارات المحاكم غير العادلة، ويحمي مصالح الناس من الضغوط غير المبررة، والاستيلاء التعسفي على ممتلكاتهم.

إن فكرة بناء الدولة الفعالة، والتي منطلقها مبدأ مشاركة المواطن في صنع القرار، واحترام حقوق الفرد، وضمان حرياته مع مراعاة مصالح المجتمع، يمكن اعتبارها خطوة ملموسة تحدد الآفاق المستقبلية لبناء الدولة القانونية في المجتمع.

"الدولة الجديدة" كيف ما كان شكلها يجب أن تحتل مكانة قوية في عقول وقلوب المواطنين، وتصبح حركة وطنية تجسد أحلام وتطلعات مواطنينا ومفكرينا، وفكرة بناء "الدولة الجديدة" ليس رغبة ذاتية بل يجب أن تكون شاملة ووطنية وضرورة موضوعية لها أسس تاريخية أساسية، تمليها الظروف السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإنسانية الحالية، وتلبيها التطلعات القديمة والجديدة والمصالح الوطنية للشعب، مع مراعاة مفاهيم وقيم اليوم الديمقراطية والأساسية، مثل "سيادة القانون"، "حقوق الإنسان والحريات"، "الانفتاح والشفافية"، "حرية التعبير"، "حرية الدين وحرية الضمير"، "الرقابة المجتمعية"، "حرية النشاط الاقتصادي" التي يجب أن تصبح حقيقة في حياتنا.

يجب أن نكون واعيين أن في عالم متعدد الأقطاب وفي ضوء التهديد بفقدان الهوية الوطنية نحتاج إلى فهم مسار البناء و التنمية الخاص بنا سوى في حالة الوحدة أو الانفصال، والذي ستطرح فكرته ليس فقط داخل البلاد، ولكن أيضًا على الساحة الدولية، حيث المنافسة العالمية أقوى من أي وقت مضى.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى