> «الأيام» سبوتنيك العربي:

شعر طلاب د. "شوقي العودي" ببرودة طقس الموت تتمدد نحو جباههم وهم يتنادون للمشاركة في دفن أستاذهم الجامعي مع زوجته وأطفاله الثلاثة بعدما اجتثّتهم من جذورها، صواريخ العدوان الإسرائيلي الأخير على حي المزة بالعاصمة السورية دمشق.

تحت سماء أخرى غير تلك التي تظلل وطنه الأم، ووري الأستاذ الجامعي الهارب من أوار الحرب في اليمن في إحدى مقابر ريف دمشق، بعدما اختطفته آلة الموت الإسرائيلية وزوجته وفتياته اللواتي لم تتجاوز أعمارهن أصابع اليد الواحدة، في مشهدية القبور الخمسة والجثامين الخمسة، جسدت لمحة سوريالية حيث اصطف الثكالي واليتامى جنبا إلى جنب في صمت أبدي، بعدما لم تبق الصواريخ الإسرائيلية من قد يبكيه أب أو ابن أو زوج أو زوج.. لقد غادر الجميع.


على الطرق إلى المدفن في محيط مدينة دوما بريف دمشق، سارت عائلة د. العودي على طريقها الأخير في ثلاثة توابيت: واحد له، وآخر لزوجته، وثالث لبناته الثلاث بأجسادهن الغضة الباردة التي لطالما عاشت متلاصقة مفعمة بالانصهار، والحال كذلك، ما المانع من أن يكملن ساعاتهم الأخيرة فوق الأرض وهن يعانقن حميمية وحدة التابوت إلى الحدود التي تتشظى معها شرارة التساؤلات المتشككة: ترى ما كن يفعلن لحظة تسلل الصاروخ الإسرائيلي إلى خلوتهن البريئة في غرفتهن الصغيرة؟ وما قد تكون آخر كلمة ترددت بينهن في تلك اللحظة. وأيهن قالتها؟ هل استمهل الصاروخ إلى أن وصلت مسامع الأخريات؟
  • حياة قصيرة في شرق حزين
يتحدر الأستاذ الجامعي "شوقي العودي" من منطقة (العود) بمديرية النادرة جنوب شرق محافظة إب، وبعدما أوغلت الحرب في صدر اليمن السعيد "المبارك"، وفد إلى فيحاء الشام "المباركة" أيضا، حيث رزق فيها بعد لأي، بثلاث فتيات جميلات.

كبرت الفتيات وهن يضحكن كما الشمس في بلجة الصباح، وفي ليلة العدوان الإسرائيلي الظلماء، وضعت الصواريخ نقطة في آخر حياتهم.. لا كلمات أكثر من هذه، لوصف حياة قصيرة لعائلة لم يبق منها، من يخبر عنها.


في هذا الشرق، حيث "لا تدري نفس بأي أرض تموت"، قضى أهله عقودهم السبعة الأخيرة وهم يتنقلون بمقابرهم من فناء إلى آخر.. الدكتور اليمني العودي لم يشذ عن هذه القاعدة، سوى أن هذا المهاجر هرب من حرب، لم يلبث أن قضى فيها، وعلم أو لربما لم تمهله الطائرات الإسرائيلية ليفعل، بأنه كان يحمل توابيت عائلته على كتفه مرتحلا من موت إلى موت.. لن يكون العودي آخر القتلى المظلومين، طالما أن هذا القدر الذي قيضته الدول الغربية لهذه المنطقة باتت ملتصقا ببشرها وحجرها وشجرها.

أمس الأول أتم العودي وعائلته هجرتهم الأخيرة من مشفى المجتهد بدمشق إلى مثواهم الأخير في ريفها، محمولين على أكتاف طلابه وزملائه السوريين.

الأستاذ الجامعي ذو 43 عاماً كان قد وفد إلى سوريا في 2019 للتدريس في جامعاتها، فأحبها كوطنه بعدما تكحلت عيناه فيها بولادة بناته الثلاث "بيان وليان ولين"، بعد زواج دام لأكثر من 11 عاماً من ابنة عمه إقبال أحمد العودي.

درس الأكاديمي العودي الصيدلة السريرية في جامعة (عين شمس) بمصر العربية، وحصل على درجة الدكتوراه في (علم الأدوية والسموم) من كلية الصيدلة بجامعة القاهرة، وعمل أستاذا مساعداً في كلية الطب البشري بجامعة ذمار اليمنية قبل انتقاله إلى سوريا حيث عمل عضوا ًفي الهيئة التدريسية لجامعتي (السورية الخاصة)، و(الجزيرة الخاصة).

ليس للدكتور العودي أي انتماء سياسي أو حزبي، فقد نذر نفسه للعلم الصيدلاني، وتفرغ للبحث عن طرق جديدة لتقديم المعرفة والعلم للطلاب، بحسب ما أكده رئيس الجالية اليمنية في سوريا، (محمد ناجي العولقي)، لـ "سبوتنيك"، مضيفا بأن الدكتور الشهيد ينتمي إلى وطنه، وأحب سوريا لأنه تمكن من تشكيل عائلة بها، فبناته ولدوا في سوريا وتم تسجيلهم بها.. قبل أن يدفنوا فيها".


أما د. عبد اللطيف البوشي عميد كلية الصيدلة في (جامعة الجزيرة) التي عمل فيها العودي، فأكد لـ "سبوتنيك" بأن الدكتور الشهيد أصبح أخاً وصديقاً منذ أن قدم من اليمن للمساعدة في تدرس الطلاب عام 2019" مشيرا إلى أنه "تدرج في التدريس في عدد من الجامعات السورية".

وفي رثائية تثير الكثير من الشجون أضاف الدكتور البوشي: لقد أحب طلابه كأولاد له، لم يبخل عليهم، وحين قدم إلى سوريا لم يكن قد رزق بأولاد، قبل أن يتداوى لدى أحد الأطباء السوريين المشهورين، فأنعم الله عليه بطفلتين تؤام في عام 2020، وفي عام 2021 أكرمه الله بالفتاة الثالثة، كما أحضر والديه إلى سوريا بقصد العلاج في عام 2022.. كل ذلك جعل سوريا بالنسبة إليه مكانا للأمل والحياة، لكن القدر كان له كلمة أخرى".
  • مندي اليمن العشاء الأخير
ربما لن يستطيع د. سعد مخلص يعقوب استساغة (المندي اليمني) بعد اليوم، فهذه هذه الوجبة اليمنية التي أحبها السوريون بعد أن وفدت إليهم من ذلك البلد، كانت الوجبة الأخيرة التي تناولها مع صديقه الدكتور العودي في منزله قبل ارتقائه بساعات قليلة.

يقول الدكتور يعقوب لـ "سبوتنيك": كانت تربطني مع الشهيد علاقة ودية، هو صديقي، وزوجتي صديقة زوجته أيضا، كانت الزيارات العائلية بيننا مستمرة بشكل أسبوعي، وفي يوم الكارثة تناولنا الغداء معا في منزله، وصلينا العصر، وفي المساء قمنا أنا وزوجتي بوداعه وعائلته وغادرنا منزله.. لتقع المصيبة الكبرى بعد ذلك.

خلال مسيرته العلمية قدم الدكتور العودي بالعديد من الاكتشافات والأبحاث العلمية الهامة كان آخرها نشر قبل بضعة أشهر وتعنى بعلاج المتلازمة الأيضية (metabolic syndrome) لمرضى السكري من النوع الثاني، وقد نشر الأبحاث الخاصة بهذه القضية في مجلة عملية محكمة في سويسرا.

من زاوية علمية يعتقد الدكتور يعقوب أن صديقه الراحل كان مستهدفا لمكانته العلمية، مؤكدا أن جميع أبحاثه العلمية كانت تقترن بها اسم جامعته الأم بسوريا، كما عمل على رفع سوية البحث العلمي في الجامعات التي يدرس بها.