> أحمد الأغبري:
تكاد تكون الأزمة اليمنية الأكثر تعقيدًا وغموضًا من بين أزمات الحروب في المنطقة العربية خلال العقدين الأخيرين؛ كونها لم تقطع، خلال عشر سنوات، خطوات مفصلية يمكن البناء عليها واستشراف حل قادر على استعادة اليمن؛ إذ أن النزاعات الداخلية والتدخلات الخارجية في تداخل يتعمق أكثر، حتى أصبح اليمن في نزاعاته أشبه باستثمارات سياسية متنوعة تعمل قيادات هذه الاستثمارات والنزاعات الداخلية لصالح الممول؛ ما يجعل الأخير أكثر اصرارًا على استمرار النزاعات لحماية مصالحه.
ملف الأسرى والمعتقلين، وجميعهم، للأسف، يمنيون، فكيف يتفاوض يمنيون على إطلاق أسرى يمنيين؟
ملف مرتبات موظفي القطاع الحكومي، إذ أن صرفها لموظفي القطاع العام حقٌ لا يسقط في أي حال، ولا يُفترض أن يختلف عليه الطرفان؛ لأن عدم الاتفاق عليه يؤكد موافقتهما على بقاء غالبية الشعب في حالة عوز.
ووفق الأخبار الرسمية لتلك اللقاءات فقد تناولت جهود السلام، ومن أهم تلك اللقاءات لقاء آل جابر بالمبعوث الأمريكي لليمن، تيم ليندر كينغ، في الرياض، وهو اللقاء الذي تناول، أيضًا، إمكانات بدء عملية سياسية في اليمن.
بالنظر إلى ما تحقق، حتى الآن، يمكن القول، وفق نظرة متفائلة، إنه أمر جيد، لكنه في ذات الوقت قد يمثل تهديدًا خطيرًا للمستقبل؛ فاللاسلم واللاحرب قد يكون تكريسًا وتهيئة للبلد لما أرادته الحرب منذ الرصاصة الأولى. وقد نتجاوز تلك المخاوف ونعتبر ما تحقق خطوة للأمام باعتبار أن الوصول إلى تفاهم بشأن مسودة اتفاق خريطة الطريق قد يمثل مرحلة أولية لابد أن تلحقها مراحل، وصولا للسلام، انطلاقًا من بنود الخريطة في مراحلها الثلاث.
لكن بالنظر إلى مسار التوقيع على الخريطة سنجده ملغومًا بتعقيدات يعلن عنها الطرفان في تداولاتهم الإعلامية المتواترة؛ فالحكومة المعترف بها دوليًا تتحدث عن المرجعيات الوطنية والإقليمية والدولية؛ وهي مرجعيات تتعارض كليةً مع مضمون الخريطة؛ فيما «أنصار الله» (الحوثيون) يصرّون على أن توقع الرياض معهم على الاتفاق؛ وهنا يتضح أن ثمة بونًا شاسعًا بين قراري الطرفين.
وهنا سينبري أحدهم ليقول: قرار الحرب والسلم في اليمن ليس بأيدي الطرفين المحليين، بقدر ما هو قرار الرباعية الدولية، بما فيه الأقليم، بالإضافة إلى أن بقاء اليمن تحت الباب السابع للأمم المتحدة قد يدفع بقراءة مختلفة؛ علاوة على أن مستجدات الصراع الإقليمي قد أضافت عُقدة جديدة ارتبط بها مسار السلام في هذا البلد القصي؛ وبالتالي صار الصراع اليمنيّ مرتبطًا بالصراع الإقليمي أيضًا، فضلًا عن علاقته بالمصالح الدولية، التي تمثلها التدخلات الخارجية، وهنا قد نضيف إنه لا يمكن فصل مسار الحل وقرار السلام عن مشروع الشرق الأوسط الجديد؛ لكن هذه الأخيرة قد يعتبرها بعض المراقبين ذهابًا في البعيد؛ مع أن ما تشهده المنطقة منذ أكثر من عقد هو جزء من ذلك المشروع، وفق تأكيدات لدراسات عديدة.
بين ما يريده الطرفان؛ وما يرتبط بالرباعية الدولية والصراع الإقليمي، قد تبدو الأزمة اليمنية بحاجة إلى سنوات، أو ربما لعقود وفق بعضهم، لتتحلل المشاريع الصغيرة التي أنتجتها النزاعات الداخلية، وكرستها التدخلات الخارجية، والتي جاء بها التسابق الإقليمي على توطين وجوده، اعتمادًا على تمويل تلك النزاعات، التي تديرها بيادق محلية، ويتحكم الممول بمفاعيلها المسلحة، بالتوازي مع عمليات عسكرية خارجية دمرت نسبة كبيرة من مقدرات البلد؛ وبالتالي صارت تلك المشاريع المحلية الصغيرة جزءا من أو مرتبطة بالمصالح والتدخلات الخارجية، وما بينهما صار البلد مشروع خريطة جديدة.
انطلاقًا من كل ذلك، قد يبدو الحديث عن السلام واستعادة البلد أمرًا ليس قريب المنال لكنه متاحًا، وقد يكون قريبًا لو أراد اليمنيون ذلك؛ لاسيما في ظل ما يظهر عليه حجم الخلاف والاختلاف (المخجل) بين البيادق المحلية؛ وهو الخلاف الذي يمكن قراءته بوضوح في عدة ملفات، أبرزها:
ملف مرتبات موظفي القطاع الحكومي، إذ أن صرفها لموظفي القطاع العام حقٌ لا يسقط في أي حال، ولا يُفترض أن يختلف عليه الطرفان؛ لأن عدم الاتفاق عليه يؤكد موافقتهما على بقاء غالبية الشعب في حالة عوز.
ملف الطرقات ونقاط التفتيش، التي يبدو معها اليمن مقسمًا لدويلات يخضع فيها أبناؤه للتفتيش على الهُوية، والسؤال عن الاتجاه، وماذا تريد من وجهتك؟
من خلال هذه الملفات الثلاثة تبدو الأزمة والاختلاف في متنها عارا على المتصارعين؛ إذ كيف تختلفون على إطلاق سراح أسراكم، ودفع مرتبات موظفيكم، وتعبيد وفتح الطرقات التي تلم شتات وطنكم؟
قد نبدو متفائلين أكثر، ونقول إن هذا التعقيد قد يتضاءل ويذوب، وربما يختفي في حال اتفق الممولون والمؤثرون على القوى المحلية، بإتجاه إعادة اليمن لليمنيين، لكن هذا يتطلب أن يستوعب القادة اليمنيون الدرس ويشعرون بالعار؛ لأن بلدهم صار لعبة يتنافس فيها الطامحون بالحكم والاستحواذ على أشلائه برعاية خارجية، حتى لو كان الثمن هو اليمن؛ فهل يعي اليمنيون حقيقة ما صار إليه بلدهم، أم ننتظر أن يستفيق ضمير الممول والمؤثر والمتحكم الإقليمي والدولي ليعيد اليمن لأبنائه، ويشترط عليهم
أن يحافظوا عليه، لكن عندما يقرر ذلك أين سيجد أبناءه، وقد ألفوا الحرب وتمرغوا بدماء بعضهم؟ وقبل ذلك، هل يمكن للمصالح الخارجية أن تتماهى مع مصالح الوطن؟
لكن على الرغم من كل ذلك، يبقى اليمن قريب المنال من أبنائه، عندما يقرر قادة الفرق المتصارعة أن يوقفوا التاريخ ويعيدوا اليمن لسيرته الطبيعية، ومساره الديمقراطي والسيادي والمدني، انتصارا لكرامة وضمير لحظة يمنية ستكون يومًا ما تاريخا.
ونحن نقف على واقع الأزمة اليمنية، لا يمكن أن نتجاوز التطورات الجديدة التي تشهدها المنطقة، بدءًا من اتفاق حزب الله وإسرائيل، وما تشهده الحرب السورية من متغيرات، وما يجري حاليًا على صعيد جهود السلام في اليمن.
ثمة محاولات للتسريع في جهود السلام؛ ولا نعرف إن كان لذلك علاقة بتوجهات الرئيس الأمريكي المنتخب، الذي سيتولى مقاليد السلطة في يناير، وحرصه وفق ما أعلن عنه على إغلاق ملفي الحرب في الشرق الأوسط وأوكرانيا، إلا أن ثمة تحركات مكثفة شهدها الأسبوع الماضي، ممثلًا فيما صدر عن أحد قيادات «أنصار الله» في «تدوينة» أوضح فيها عضو المكتب السياسي للجماعة، حسين العزي، أن صنعاء والرياض قطعتا شوطًا مهمًا في مسار السلام. جاء ذلك بالتزامن مع لقاءات لرئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، وعضو المجلس، عبد الله العليمي، والسفير السعودي لدى اليمن، محمد آل جابر، مع عدد من السفراء الأوروبيين.
جاءت تلك اللقاءات بموازاة تسريبات تتحدث عن مداولات سعودية صينية للتدخل لدى طهران لتسريع التوقيع على خريطة الطريق في اليمن.
ما زال التعرف على فحوى تلك اللقاءات والتسريبات مجهولًا، لكنه قد يصب في حرص دولي على إغلاق ملفات الحرب في المنطقة بدءًا من غزة، وأن هذا الأمر بات قريبًا، وبناء عليه سيتم الترتيب لإغلاق ملفات الحرب المرتبطة بها، بما فيها الحرب في اليمن، وما ارتبط بها من عمليات بحرية. لكن هل يمكن القول إن كل هذا سيمضي باتجاه إعادة اليمن لابنائه؟ الإجابة تقول إن ذلك مرتبط بما يريده اليمنيون أنفسهم؛ فهم وحدهم من سيصنع اللحظة، وبالتالي قرار السلام والمستقبل.
القدس العربي