هي لحظة كانت كافية حينها لتجعلني متمسكاً أكثر بالقلم، وأنا الذي لم أترك الكتابة به، حتى بعد أن استغنت عنه الأغلبية الغالبة في هذا الوقت من المشتغلين بالكتابة وحرفة الأدب ومهنة الصحافة، وكل مجال له علاقة بالقلم. في تلك اللحظة اقتربت مني ابنتي وفي يدها لوحها الإلكتروني الذي تذاكر من خلاله دروسها، وطلبت أن أساعدها في شرح درس في النحو كان قد صعب عليها فهمه، فطلبتُ منها أن تأتيني بورقة وقلم، وإذا بها تستغرب طلبي هذا وتقول: وما حاجتك للورقة والقلم، ألا يكفي هذا؟ وهي تشير إلى اللوح الإلكتروني في يدها. حاولت أن أشرح لها كيف أني لا أستطيع التخلي عن استعمال القلم، فإذا بها تسألني في تعجب: وهل بقي أحد في هذه الأيام يستخدم القلم؟ هنا أحسست وكأن الزمن قد توقف.. هنا بدأت ومضات من نجوم الذكريات الخابية ترتعش في وهن أمام عينيَّ، وأنا أجاهد النفس والذاكرة معاً لأستبين شيئاً من ملامحها، وبعد طول عناء لاح بعض مما غاب ونُسي في العمر، لكنَّ صوت ابنتي قطع عليَّ حبال النظر الممتدة نحو ذلك الومض الرهيف من ذكرياتي الخافتة، وهي ترجوني أن أجيب طلبها بمساعدتها في شرح الدرس، فكان لها ذلك، ولكن بطريقتي لا بطريقتها -أي بالقلم- لأنني باختصار أؤمن بالقلم الذي أقسم به رب العالمين، مع عدم اعتراضي على استخدام التقنية الحديثة، بل تأييدي لذلك بشدة، لأن استخدامها ومواكبة التطور الهائل في عالمها أصبح من ضرورات العصر التي لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال، ناهيك عن إتقانها والتميز فيها وفي مجالاتها المتجددة باستمرار.

أما القلم فله معي حكايات كثيرة وذكريات أثيرة، منذ أن أهداني والدي في صباي قلماً بعدما رأى مني ميلاً نحو الكتابة، ومنذ أن اشتريت أول قلم أعجبني بعد ادخاري قيمته من مصروفي الشخصي، حتى الدواة فقد جمعتني بها عِشرة لا تفارق نفسي وذاكرتي إلى اليوم، وكنت أحب استخدام أقلام الحبر السائل، وأذكر أنه حين تحولت إلى الكتابة بقلم الحبر الجاف، بعد أن تهيأ لي أن الدواة أصبحت من الماضي، نظمت قصيدة وأنا في الخامسة عشرة، منها:

سامحيني يا دواتي أنتِ يا نبعَ حياتي

ما تخلَّيتُ ولكن ملكَ الحاضرُ ذاتي

وأنا اليومَ وثوباً أقطعُ الدربَ لآتِ

وأحببت الكتابة بقلم الحبر الجاف حتى أنني من شغفي وتعلقي به كنت لا أرميه بعد أن ينزف آخر قطرة فيه، بل أحتفظ به كصديق عزيز، وشاهد أمين على خلجات نفسي وأسرار وجداني وهمسات عواطفي ومناجاة أفكاري والتماعات تأملي وابتسامات وانقباضات خيالي، حتى أصبح عندي من الأقلام مختلفة الأنواع والأشكال ما لو جمعته لأنشأت متحفاً وأسميته (متحف القلم)، وهنا أتذكر معلماً بيلاروسياً كان يدرسنا مادة الأدب العالمي، فقد كان يطلب منا نحن الطلبة الأجانب، حين نغادر لقضاء الإجازة الصيفية في بلداننا، أن يأتيه كل طالب بقلم كهدية، وكنا نرى السعادة ترتسم على وجهه وهو يتسلم هداياه بحب وابتهاج كبيرين، ولا شك في أن له مع القلم قصصاً وأموراً لا نعلمها، ولكن الذي كنا نعرفه هو حبه وشغفه بالأقلام وجمعها.

ولا أراني مبالغاً إذا قلت إن بالقلم كانت تبدأ وتتواصل المسيرات نحو الأهداف المرسومة، وبالقلم تتحقق المساعي إلى حيث المرامي والغايات المعلومة، فقلت في هذا المعنى:

فكن إذا غايةٌ أغرتكَ ذا قلمٍ

فإنما تُدركُ الغاياتُ بالقلمِ

لقد كان القلم ومازال رفيقي في حلي وترحالي، فحيثما أذهب أحمله معي، وإذا استعددت يوماً للسفر فإنني أحرص على اصطحاب توأم أقلام من النوع الحبيب إلى نفسي، أحدهما يظل في جيبي والآخر في حقيبتي، ثم إن لي نظراً عجيباً إلى الأقلام التي أكتب بها، فلا أختار منها إلا الجميل الأنيق والخفيف الرشيق، الذي إذا جرى على الورقة لم تشعر بجريانه، وهو يبث فيها من مكنون سحره وبيانه، وإذا توقفتُ عن الكتابة عزَّ عليَّ تركه، لأنه في رحلة العمر ملكي وأنا ملكه، هو سميري في أجواف الليالي، مرآة فكري وترجمان حالي، فإن طلبته كان لي نعم المعين، بنبضه الرائي وعقله الرزين، وإن غفلتُ عنه لبعض الوقت أحسست باشتياقه، ونال نفسي شيء من همِّ فراقه، فإذا بي أعود إليه وفي القلب فيض من حنين إلى قلمي رفيق عمري الوفيِّ الأمين.

عن "مجلة الشارقة الثقافية"