كل شيء معلّق في فضاء زمني مفتوح، والانتظار السلبي هو سيّد المشهد. لا أفق سياسي واضح، ولا حتى حراكً فعلي لمواجهة الإجراءات العدائية وفكّ الحصار الذي تفرضه سلطة صنعاء، بعد أن بلغ أقصى مداه. وكأن «المناطق المحررة» تترقب لحظة استراحة العالم من صراعات الشرق الأوسط، لعلها تحظى بلفتة اهتمام من القوى الإقليمية والدولية.

المملكة السعودية (قائدة التحالف) أرخت يدها عن الملف اليمني، واختارت أن تضعه في ذيل قائمة أولوياتها، بعد أن كان في صدر العناوين. ولم يعد يُستحضَر إلا عَرَضًا. هذا التراجع لا يُقرأ كونه انسحاب بقدر ما هو إعادة ترتيب للثقل السياسي ضمن معادلات أكبر، يختفي معها اليمن خلف أسوار الملفات الإقليمية وغيرها في المنطقة العربية.

المجلس الرئاسي، الكيان القائم على محاصصات فصائلية وجغرافية وحزبية، وفق منظور الدولة الراعية ورغبتها، يظل في جوهره كيانًا محدود السيادة، يتحرك ضمن فضاء مقيد بخطوط حمراء ترسمها الرياض، ما يجعله رهينًا لاجتهادات الأطراف الإقليمية أكثر مما هو فاعل مستقل في معادلات الداخل والخارج. وإذا أمكن النظر إلى هذا التموضع من زاوية الضرورات في سياق داخلي بالغ التعقيد، إلا أنه لا يملك ما يكفي من الإرادة أو الرؤية أو الحد الأدنى من الجرأة لاقناع الإقليم والعالم، بأنه حان الوقت لاستخدام أوراق الضغط لتحريك المياه الراكدة وكسر حالة الحصار الاقتصادي وإنقاذ المناطق المحررة بعد أن أصبحت تحت سطوة من تحررت منه.

لا شيء سوى الخطاب وإعادة تدوير تكتلات أحزاب شاخت على رصيف التاريخ و تجاوزها وعي الشارع وملّها المزاج العام، ناهيك عن هشاشة التوازنات التي تجعل كل قرار مرهونًا بحسابات دقيقة لتجنّب انهيار الهيكل من الداخل.

بمعنى آخر، المجلس ليس محل رهان على تقديم شيء للبلد المنكوب، سوى أن يظل واجهة رسمية لدولة (من الماضي) هشة، قائمة بالحد الأدنى (fragile state)، في انتظار أن يُستدعى للتوقيع على خطة (خلطة) سلام لم يكن طرفًا في صياغتها، وكأن موازين البقاء تنحصر في أن يقدّم خدمات سياسية للإقليم أكثر مما يحمل مشروعًا داخليًّا.

المجلس الانتقالي الجنوبي من ناحيته، محاط بالخصوم ويتلقى سهامهم من كل آبٍ وصوب. لا أحد ينصفه إن أنجز، ولا أحد يشفع له إن أخطأ.. كأنه هو من صنع التاريخ الموبوء والحاضر المخيف. ومع ذلك، لم يلتقط بشكل مبكر إشارات التحوّل في مزاج الناس ومعنوياتهم، التي لم تعد ترحّب بالشعارات دون فعل. إذ لا شيء يمكن أن يقنع جيلًا يرزح تحت أعباء واقع بالغ التعقيد سوى الإنجاز والنموذج، الذي لا يأتي من ثقافات السلطة التقليدية. على الانتقالي أن يدرك أن هناك تراجعًا ملحوظًا في مشاعر الناس تجاه رموزه، بعد أن تكالبت عليهم أسئلة البقاء الشهيرة: كهرباء، ومياه، وخدمات أساسية، ومرتبات، ونافذة للأمل… حتى إنّ سرديات «الخطاب الجنوبي» تضاءل تأثيرها على نحو يثير القلق.

بالمختصر، ما تزال مناطق الجنوب تواجه خطر الإرهاب وتغلغل منابعه حتى في عمق عدن، وسط تواطؤ أطراف محلية وإقليمية، إلى جانب عواصف إعلامية لا تهدأ، ووضعٍ معيشيٍّ يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. ناهيك عن ظاهرة«تفريخ الجيوش» وكأن الساحة الجنوبية تعاني من «فراغ قوة» أو تحوّلت إلى ساحة (تحضير) صراع إقليمي.

كل ذلك يستدعي الكثير من القلق البنّاء، والجهود الشاقة، والحضور الفاعل إلى أبعد حد، كما يقتضي حتمًا رسم خطوط حمراء واضحة.

إنها مرحلة اختبار وجودي تتطلب قدرات استثنائية، وحراكًا يقظًا، وتفاعلات استشرافية استباقية، والمجاهرة بالحقائق أمام الناس عند الضرورة. فحين يفقد الصمت فضائله السياسية أو حتى سياقه الفلسفي، يغدو في أحسن الأحوال مجرّد «قلّة حيلة».