عوالم عدن لا ترتبط، كما كانت في الماضي، بصلات تخفف من حدة الفوارق الاجتماعية والمادية والنفسية، بل صارت تتحكم بها تكوينات متعددة الولاءات والانتماءات، مع اعتراف الجميع بأن السطات المحلية التي تمارس عملها بصعوبة في إطار القانون أضحت أضعف الأطراف، سواء على مستوى المراكز المحلية في المناطق "المحررة"، أو على مستوى الوطن بأكمله.
بعد إخراج الميليشيات المسلحة التي قدمت من شمال اليمن إلى عدن في عام 2015 توقع الناس، وتمنوا، أن يبدأ فوراً العمل فيها لخلق نموذج إنساني وعمراني وتنموي يليق بمدينة هي في ذاكرة كل اليمنيين، درة وطنهم التي احتضنت كل الناس من دون تفرقة ولا تمييز، ولم يعد الناس يفرقون بين قاطنيها، لكن نفساً غير معتاد، وإن كان من الممكن تبريره، انبعث بعد حرب صيف 1994 وجعل من كل يمني شمالي خصماً وعدواً يجب تحميله كامل أخطاء حكامه.
ومن المؤسف جداً أن هذا الأمر ازداد عمقاً وذاك أمر مفهوم بعد يوليو (تموز) 2015، وتعاظم الشحن باتجاهات مناطقية لم يعهدها اليمن شمالاً أو جنوباً، في تاريخه. وبدا الأمر انتقاماً غير مفهومة دوافعه ولا معقولة مبرراته، ولا مقبولةً نتائجه.
لا يمكن أن ينكر أحد ما حدث في عدن من نهب للممتلكات العامة والخاصة بعد ما كان البعض يطلق عليه "يوم النصر" في عام 1994. ولا يمكن تجاهل ما حدث من عمليات تسريح في كل أجهزة السلطة للمنتمين إلى الحزب الاشتراكي، وللأسف كان أغلبهم من الجنوبيين. ولا يجوز أيضاً النسيان والتجاوز كي نأخذ الدروس والعبر، وليس لتبرير وقبول روح الانتقام، لأن دورات النصر والهزيمة في التاريخ لا تتوقف عند نقطة مهما بلغت قوة مَن توهم أن الانتصار الداخلي على أشقائه في الوطن سيمنحه الأمان مستقبلاً.
عدت من عدن بعد أيام قليلة تجولت فيها بأمان ويسر ومن دون أي إزعاج ليلاً ونهاراً، والتقيت عدداً من الأصدقاء، وسمعت روايات كثيرة عن الأوضاع، ولمست بعضها مباشرة من الناس، ورأيت بعضها بعيني. والواقع أن هذه التناقضات كلها تتعايش حتـى هذه اللحظة من دون انفجار، لكن من الضروري من دون تأجيل تنفيس الاحتقانات التي تمتلأ بها النفوس جراء الفقر والجوع وسوء الخدمات، وفوق كل هذا الفساد الإداري والمالي الذي فشلت كل الأجهزة الرقابية في إيقافه أو حتى فرملته، سواء كان جهاز مكافحة الفساد المستقل أو جهاز الرقابة والمحاسبة الحكومي، والجهازان معهما من الملفات ما يكفي لإدانة أعداد كبيرة من المسؤولين.
بعد سفري من عدن التقيت دبلوماسياً غربياً مرتبطاً مباشرة بما يدور في اليمن، وكان طبيعياً أن يسألني عن انطباعاتي فكان جوابي إنها مدنية ساحرة بطبيعة أهلها المسالمين على رغم ما تعرضوا له في الماضي من تهميش أحياناً، وقسوة لا تتناسب مع نفسياتهم... وقلت له إني عدت وشاهدت عوالم عدة ضمن عالم عدن الفسيح.
قلت للدبلوماسي الغربي إن عدن تمر بحال من الفوضى لا تخطئه العين المجردة بسبب تعدد الجهات التي تتحكم في نشاطها اليومي، كما تنتشر فيها مظاهر الفقر والخروج على القانون من المتعدين على الأراضي الحكومية (يطلق عليهم المتهبشين).
ثم هناك غموض اليوم التالي بسب ارتباك السلطة وعدم قدرتها على تنظيم أعمالها.
وأضفت أن السبب الأهم هو عدم وجود رؤية واحدة داخل مجلس القيادة الرئاسي وغياب أهداف جامعة تحتشد خلفها الناس.
عوالم عدن لا ترتبط، كما كانت في الماضي، بصلات تخفف من حدة الفوارق الاجتماعية والمادية والنفسية، بل صارت تتحكم بها تكوينات متعددة الولاءات والانتماءات، مع اعتراف الجميع بأن السلطات المحلية التي تمارس عملها بصعوبة في إطار القانون أضحت أضعف الأطراف، سواء على مستوى المراكز المحلية في المناطق "المحررة"، أو علـى مستوى الوطن بأكمله. وهذا أمر غاية في الخطورة وستكون عواقبه وخيمة على الجميع بغض النظر عن توجهاتهم ورغباتهم.
قد يكون مجدياً أن أوضح أن مشاهداتي في عدن جعلتني أشد قلقاً على وضع البلاد عموماً بسبب التباينات بين الممسكين بالقرار السياسي في قمة السلطة، وأعني تحديداً مجلس القيادة الرئاسي والحكومة. وعلى رغم أن التباينات أمر طبيعي يحدث عند النقاش حول القضايا الكبرى، لكنها تؤثر حتماً في اتخاذ القرارات العاجلة، وهذا ينعكس على كل ما يدور في الأرض ويربك كل جهد لتجميع شتات السلطات وتوحيد رؤيتها ثم قرارها.
مر عامان على تشكيل مجلس القيادة الرئاسي انتظر الناس خلالهما أن يقدم "المجلس" رؤية واضحة وخطة عمل شفافة، ولكنه عجز تماماً، ولم تتضح للناس أصحاب المصلحة الأولى، معالم الطريق التي سيسيرون عليها ومعهم مصير البلاد، وصولاً إلى السلام أو العودة إلى مسار الحرب، ويجب أن يكون مفهوماً أن إخراج هذه الرؤية إلى النور لا يجوز أن توكل مهمته إلى مبتدئين في عالم السياسة والاقتصاد لأن البلد لم يعد يحتمل خوض مراحل من التجارب والمراهقة أنهكته طويلاً.
اليقين الذي يجب أن يعيه أعضاء "المجلس" هو أن الحديث المكرر والمفردات الخشبية والبيانات والصور لم تعد مقنعة ولا مجدية ولا تمثل أي قيمة وطنية عند الناس، وكل ما يقال عن "التوافق" بين أعضائه ليس أكثر من أمنيات وسراب، وعليهم أن يدركوا حجم المسؤولية الأخلاقية والسياسية التي أنيطت بهم في 7 أبريل 2022، وهي مهمة ظن الناس أنهم أهل لها.
لقد تجاوزت أوضاع الناس المعيشية كل حواجز المعقول، ولم يعد أكثرهم يتمنى أكثر من وجبة طعام يومية، وعجزت السلطة عن تحقيق اختراق حقيقي يبعث على الأمل ويعيد للناس ثقتهم في القائمين على أمورهم، وليس مرد ذلك إلى النقص في الموارد فقط، ولكن السبب الرئيس هو حجم الهدر في الإنفاق وتضخم فواتير التعيينات غير الضرورية، وهو ما شرحه أحد كبار المسؤولين في السلطة حين قال لي إنه لم يكن يقدّر حجم ما سماه بـ "الكارثة" حتى اطلع على القليل من الملفات الموثقة بالأرقام.
إن حقيقة العجز في تحقيق الإنجاز لا يمكن فصلها عن عجز "المجلس" المطلق وعدم شفافية نشاطات أعضائه، ما لم يتدارك رئيسه الموقف بالحزم والحسم وإظهار الإرادة الوطنية من دون تردد.
اندبندنت عربية