نجوم عدن .. علي عبدالله العيسائي

> فضل النقيب

>
فضل النقيب
فضل النقيب
كان بيت الشيخ علي عبدالله العيسائي في حارة الشيخ عبدالله بكريتر محكوماً بنظام دقيق لكنه غير متزمت: هناك طباخ رسمي اسمه «بلال» من حضرموت يقيت المقيمين والزائرين بالوجبات الثلاث دون تقتير ولا إسراف وكان بلال بالغ السمنة ولكن نَفَسَه في الطبخ لا يُعلى عليه والجميع يقدرونه ويبالغون في مجاملته وهو أهل لذلك في موقعه المرموق، وكان هناك قيّم على الأرزاق حازم ومأمون اسمه محمد أحمد يجلب المتطلبات من الأسواق ويمنح كل طالب نصف شلن يومياً ويقدم الحسابات إلى الشيخ فيعتمدها إلى الصندوق، ولم يحظ بغرفة منفصلة في البيت سوى محمد عبدالله العيسائي أخ الشيخ علي الذي كان يوليه عناية فائقة ومحبة زائدة ولا أنسى ذلك اليوم الذي فصّل فيه اثني عشر قميصاً من الحرير دفعة واحدة ، وكان محمد شخصية على قدر كبير من الاتزان والوجاهة ، أما الشخص الثاني الذي حظي بغرفة منفصلة فهو والدي، وكانت غرفة كبيرة مطلة على الشارع تستخدم ظهراً للمقيل ، ولا يشارك والدي فيها سوى الضيوف المرموقين، وقد وفد إليها مرة واحدٌ من كبار تجار الهند فأبهرنا برصه عشرات القوارير من العطور المتنوعة على طاولة الزينة وطوال الأسبوعين اللذين قضاهما الرجل كان من في الدار غارقاً في عطور الرجل الذي يتظاهر بأنه لا يشعر بتناقص عطوره ومن الجلي أنه كان سعيداً بذلك فهناك ما يشبه التواطؤ بينه وبين المقيمين وكان الخوف كل الخوف أن يشعر العم علي بذلك فهو لا يعرف التسامح في مثل هذه الأمور وعدالته قاسية رغم أن قسوته عادلة ، وفي أحد الأيام أمر السائق علي ناصر أن يأخذ الأطفال في نزهة على البحر بالسيارة «الاوبل» الجديدة التي لا تزال روائح كسائها الجلدي في أنفي إلى اليوم، وكانت «الاوبل» في تلك الأيام ملكة السيارات وكان البسطاء من الناس إذا سألته عن حاله يجيبك بالقول (با يفتح الله وبانشتري اوبل).. المهم أنه بعد صدور الأمر اندفعنا كالوعول وكان أن أحرزت الكرسي في المقدمة بجانب علي ناصر، الذي على رغم قصره يشمخ وراء المقود كأنه الجنرال مونتجمري ولم يخف العم علي سعادته لسعادتنا حتى أنه ظل يتابعنا من نافذة البيت حين وصل ابنه البكر «بدر» رحمة الله عليه فأمرني بالنزول والركوب في المؤخرة فرفضت وعلت أصواتنا فنزل العم على متسائلاً: من الذي قعد قبل الآخر فقلت أنا فقال لابنه لا حق لك فثار غضبه لأنها سيارة أبيه وليست سيارة أبي فرفض العم علي رغم خجلي وعرضي للذهاب إلى الخلف، وقد عاد بدر مغاضباً إلى البيت، وكان ذلك واحداً من الدروس الكبيرة في حياتي ولم يغادر ذاكرتي أبداً .. ألم أقل إنه كان قاسياً في عدالته وعادلا في قسوته.

وكان يأتي إلى البيت في أوقات متباعدة جماعة من أصحاب الطريقة الأحمدية بعمائمهم الخضراء وانصرافهم الكلي إلى الحضرة الإلهية ، وكان العم على يبرهم، فقد كانوا يلوذون به «لوذ الحمائم بين الماء والطين» على حد تعبير شاعر العراق الأعظم الجواهري في قصيدته التي خاطب بها دجلة:

يا دجلة الخيريا أم البساتين

حيّيت سفحك عن بعد فحيّيني

وكان للشيخ اهتمام بالأدب وأذكر أنه أنقدني مائة جنيه في مصر وهي ثروة في الستينات من القرن الماضي عندما اندلق فنجان شاي على الطاولة التي كان يضيفنا إليها في بيت الشيخ عمر على النيل فقلت «وللأرض من كأس الكرام نصيب» فأعجبه ذلك أيما إعجاب واستنشدني بقية القصيدة.

عندما زارنا في مدرسة «قعطبة» وكنا حوالي أربعمئة طالب من يافع طلب من الأستاذ قاسم المصباحي تسجيل طلبات المدرسة ، وقد حدثني الأستاذ الذي هو الآن قعيد البيت في صنعاء مصابا بشلل جزئي بأنه احتار لعظم الطلبات فقال له الشيخ علي: اكتب أربعمئة بدلة، ألف دفتر، ألفا قلم .. الخ .. وما كان لأحد في ذلك الزمن أن يكرم بمثل هذا الكرم وفوق ذلك يضيف المصباحي: خصّني بكسوة نفيسة تبخترت بها في زواجي كأني سلطان زماني.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى