الأمانة والخيانة في ديمقراطية الحكم والإدارة

> آمذيب صالح أحمد :

> بينما تولى الإمام ابوبكر الصديق ] خلافة المسلمين بعد رسول الله [ كأول حاكم منتخب بالشورى والبيعة خطب في الناس خطاباً قصيراً مركزاً حدد فيه بعض دعائم الحكم في الإسلام تتعلق بالأداء والمشاركة والرقابة. وبنظرته الثاقبة حدد مقياس الأداء الإسلامي الصحيح في الحكم والإدارة والمعاملة بين الناس في المجتمع والدولة في هذا المبدأ الشهير الذي قاله ضمن خطابه السياسي وهو أن: «الصدق أمانة والكذب خيانة» فبرنامجه السياسي قائم على تنفيذ مهام الشريعة الإسلامية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. غير أن طريقة تنفيذ «الشريعة الإسلامية» كبرنامج للحكم يجب أن تقوم على الصدق دائماً وأي كذب في آليات التنفيذ هو خيانة لأمانة الولاية وخيانة للشعب المسلم. فنحن نرى اليوم أن معظم الفشل في السياسات الحكومية والعجز في إدارات أجهزة الدولة المختلفة والاختلال في العلاقات الاجتماعية بين المواطنين والمعاملات التجارية بين الناس يرجع الى سبب رئيسي وكبير هو ممارسة الكذب في السياسات والوعود والأعمال والمعاملات بقصد أو بغير قصد. ويشترك في ممارسة الكذب كثير من أفراد المجتمع وكثير من عناصر أجهزة الدولة وكثير من القادة والمسئولين والأعيان والوجهاء العاملين والناشطين في مختلف الميادين السياسية والاجتماعية والتجارية الرسمية والشعبية.

وبما أن الصدق في الإسلام هو جزء من أخلاق المسلم المحمودة والخيرة فإنها تعتبر فريضة وواجباً وصفة لازمة للفرد العاقل في كل تصرفاته وسلوكياته وأعماله الخاصة والعامة، وبالمقابل فإن الكذب في الإسلام هو خيانة وإثم وباطل ومرض في النفس والعقل لأنه من الأخلاق المذمومة والشريرة التي يجب اجتنابها والتخلص منها باعتبارها مؤدية الى الكفر والفجور والحرام والهلاك والخراب والفسوق (عصيان الشريعة). وعليه فإن الصدق الذي هو الأمانة في الحكم والإدارة هو أحد مداميك الديمقراطية الإسلامية كما أعلنه الخليفة الأول وإمام المسلمين أبوبكر الصديق ] لأن الصدق هو محور عظيم تدور عليه وحوله كافة الأخلاق والأعمال في الدولة والمجتمع المؤدية الى العدالة الشاملة المحققة لجوهر الشريعة الإسلامية في الإيمان والحرية والمساواة والعدل والشورى والرقابة على الولاة والولاية. وإذا كان الكذب هو فجور وحرام وهلاك، فإن التكذيب بجوهر الشريعة الإسلامية هو كفر وإثم. إن مخالفة الدستور والقوانين الشرعية للدولة القائمة على الشريعة الإسلامية يعتبر كفراً وتكذيباً. ولو تأملنا في كل قوانين الدولة لوجدنا أنها تحتوي على نصوص للعقوبات تتعلق بمخالفة أحكامها أي بتكذيبها والكفر بها. كما أن قوانين الجرائم كلها تتعلق بممارسة الكذب والتكذيب لأحكام القوانين إما بالإخلال بها ومخالفتها أو بعدم تنفيذها أو الالتزام بها كما سيأتي لاحقاً في الحديث عن أنواع الكذب. أما الصدق والتصديق فإنه يشتمل على معان كثيرة من بينها الالتزام بالدستور وتنفيذ القوانين وفقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية الكبرى في العدالة الاجتماعية.

ولكننا قبل أن نسترسل في استكشاف مفهوم الصدق كأمانة ومفهوم الكذب كخيانة على أرض الواقع الحياتي في الدولة والمجتمع لابد من تعريف وتوصيف لمعاني وأنواع الصدق والكذب المختلفة وتحديد مفاهيمها وتوضيح أسبابها وآثارها. وخير ما نستند إليه في البداية هو المرجعية الإلهية الكبرى للعرب والمسلمين من الكتاب والسنة التي تأصلت في عقائدهم وأفكارهم وقيمهم وأخلاقهم وأعرافهم وعاداتهم.


(2) الصدق في آيات القرآن العظيم
هذه بعض الآيات التي وردت بشأن الصدق:

{قُلْ صَدَقَ اللّهُ} آل عمران95 . {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ لَصَادِقُونَ} الانعام/146 .{اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} التوبة/119 صِدْقٍ عَلِيًّا}مريم/50 . {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} الأنبياء/9 .{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} الزمر/74 .{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ}محمد/21 .{ .{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} الذاريات/5 .{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} القمر/55 .


(3) الكذب في آيات القرآن العظيم
هذه بعض الآيات التي وردت بشأن الكذب:

{ِفي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْ .{بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} التوبة/77 .{إِن يَتَّبِعُونَ إِل تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الزمر/3 .{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} غافر/ 28 . {لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} النبأ/35.


(4) الصدق والكذب في السنة النبوية
جاء في بعض أحاديث رسول الله [ ما يلي:

- إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا؛ وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا.

- تحروا الصدق، وإن رأيتم أن فيه الهلكة فإن فيه النجاة؛ واجتنبوا الكذب، وإن رأيتم أن فيه النجاة فإن فيه الهلكة.

- دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة.

- إن الكذب باب من أبواب النفاق.

- كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث: الرجل يكذب في الحرب فإن الحرب خدعة، والرجل يكذب المرأة فيرضيها،(وزاد مسلم في رواية أخرى حديث المرأة لزوجها)، والرجل يكذب بين الرجلين ليصلح بينهما.

- الكذب كله إثم، إلا ما نفع به مسلم، أو دفع به عن دين.

- إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان.


(5) فحوى بعض مفاهيم الصدق والكذب في الكتاب والسنة
إذا تأملنا فحوى الآيات القرآنية السابقة عن مفهوم الصدق عند الله لوجدنا ما يلي: (أ) أن الله هو الصادق وأقواله -القران- صادقة. (ب) أن الصدق هو تنفيذ الوعد. (ج) أن القرآن (الإسلام) هو الصدق الكامل. (د) أن الصدق هو العدل وهو الحق وهو التقوى وهو الرحمة وهو النجاة والطمأنينة وهو الجهاد بالمال والنفس وهو الإيمان بغير ارتياب. (هـ) أن خير نصيحة من الله للإنسان هي الالتزام بالصدق في كل أعماله حتى يستجيب له الله. (و) أن الصدق نقيض الكفر وأن غير الصادقين هم المستحقون للعذاب. (ز) أن الصدق نقيض للنفاق. (ح) أن الصدق هو الالتزام بتعاليم الله التي هي في التقوى. (ط) أن الصدق فيه الخير وله جزاء نافع عند الله ويؤدي إلى البر. (ي) أن ما جاء به الرسول الأكرم [ من الإسلام هو صدق وحق.

أما إذا تأملنا فحوى الآيات القرآنية عن مفهوم الكذب عند الله لوجدنا ما يلي: (أ) أن الكذب مرض في نفس الإنسان وعقله وعقابه أليم عند الله. (ب) أن الكاذب ملعون. (ج) أن الكذب هو خداع وضلالة ونفاق وافتراء ومخالفة تعاليم الله في الإسلام وكُفر بها. (د) أن الكذب هو الظن والتقول على الغير والإثم والريبة ويؤدي الى الفجور. (هـ) أن الكذب هو التحليل والتحريم دون أمر من الله والافتراء على الله ونتيجته الخسران والهلكة. (و) أن الكذب هو كفر وضلالة. (ز) أن الكذب هو إسراف وإفراط. (ح) أن الكذب هو خطأ وباطل وإنكار للحق وهي من الأعمال التي تخلو منها الجنة. (ط) أن الكذب الذي يقهر عدواً ظالماً للمسلمين أو يخمد شيطاناً للفتنة بينهم جائز في أحوال معينة وبشروط شرعية.


(6) المفاهيم الاجتماعية للصدق والكذب ومفرداتها اللغوية
(أ) تعريف الصدق:

نستطيع تعريف الصدق حسب أنواع التوصيفات التسعة التالية للصدق وهي:

(1) التطابق بين النظرية والتطبيق او بين النوايا والأعمال.

(2) التطابق بين الأقوال والأفعال.

(3) التطابق بين القانون وبين تنفيذه والالتزام به.

(4) التطابق بين الموصوف وبين صفاته.

(5) التطابق بين الأفعال السابقة وبين الأفعال اللاحقة في الأحوال المتشابهة.

(6) التطابق بين الأقوال السابقة وبين الأقوال اللاحقة عن نفس الحالة.

(7) التطابق بين الأفكار والأحاسيس وبين التعبير عنها.

(8) التطابق بين الرؤى والمشاعر وبين الواقع الموضوعي.

أما المفردات اللغوية والألفاظ المترادفة لمعاني الصدق في اللغة الاجتماعية التي يستخدمها الناس حمداً واستحساناً للصدق في التعامل مع أجهزة الدولة أو في العلاقات الاجتماعية بين الناس فتشمل الألفاظ التالية وهي: الصدق، الوفاء، الإخلاص، الصراحة، الاستقامة، الصحة، الصواب، الوضوح، العلنية، الثبات، التصديق، الالتزام، الحق، العدل، المساواة، التقوى، الاعتدال، الوسطية، الميزان، الانتظام، التناسق، التطابق، التناغم، والانسجام.


(ب) تعريف الكذب
أما الكذب فنستطيع تعريفه حسب أنواع التوصيفات التسعة التالية للكذب وهي:

(1) الاختلاف بين النظرية والتطبيق او بين النوايا والأعمال.

(2) الاختلاف بين الأقوال والأفعال.

(3) الاختلاف بين القانون وبين تنفيذه والالتزام به.

(4) الاختلاف بين الموصوف وبين صفاته.

(5) الاختلاف بين الأفعال السابقة وبين الأفعال اللاحقة في الأحوال المتشابهة.

(6) الاختلاف بين الأقوال السابقة وبين الأقوال اللاحقة عن نفس الحالة.

(7) الاختلاف بين الأفكار والأحاسيس وبين التعبير عنها شفوياً.

(8) الاختلاف بين الرؤى والمشاعر وبين الواقع الموضوعي.

أما المفردات اللغوية والألفاظ المترادفة لمعاني الكذب في اللغة الاجتماعية التي يستخدمها الناس ذماً او استقباحاً للكذب في التعامل مع أجهزة الدولة او داخلها او في المعاملات والعلاقات بين الناس في مختلف المجالات فتشمل الألفاظ التالية على سبيل المثال وليس الحصر وهي:

الخيانة: الغدر، الغش، السرقة، الاختلاس، النصب، الابتزاز، الاحتيال، الرشوة، السحت، الحرابة، التقطع، الاختطاف، الغصب والنهب.

التزوير: التزييف، التدليس، التضليل، المبالغة، التهويل، الغش، التلبيس، الانتحال، والبهتان.

الخداع: التمويه، التضليل، المكر، المراوغة، المخاتلة، التزويغ، المناورة، التنكر، التخفي، السرية، الكبت، والتكتم.

الرياء: المديح، المجاملة، الإطراء، الملق، التجميل، المحاباة، والتزويق.

التكذيب: الإفك، الافتراء، التقول، الاتهام، الادعاء، التخرص، التوهم، الظن، الانحراف، الإرجاف، والإشاعة.

الفتنة: النميمة، السب، الشتم، القذف، الغيبة، الوشاية، الجاسوسية، والتحريض.

الغلط: الخطأ، الباطل، الظلم، الجور، العيب، الجُرم، التقصير، العجز، الجنوح، الاعتداء، الانحراف، الإخلال، والمخالفة.

الإسراف: الإفراط، التفريط، النقص، التبذير، الشُح، العجز، القصور، والتقصير.

إخلاف الوعد: التأجيل، التأخير، التسويف، المماطلة، الإنكار، والجحود.


(7) تحليل توصيفات الصدق والكذب في المعاملات الرسمية والشعبية
والآن لا بد لنا ان نحلل التوصيفات لتعريف الصدق والكذب وبمعانيهما المختلفة وذلك بإنزالها على الوقائع اليومية في الحياة كأمثلة وأحداث ووقائع ملموسة ومحسوسة حتى تتضح توصيفات مفهومي الصدق والكذب بدقائق فروقهما ولطائف تماثلهما على النحو التالي:


(1) التطابق والاختلاف بين النظرية والتطبيق أو بين النوايا والأعمال
ينطبق هذا التوصيف للصدق والكذب على مدى صحة نظرية من النظريات الفكرية والعلمية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية عند تطبيقها على الواقع. فنحن نعرف أن كثيراً من هذه النظريات التي اُتيحت لها فرصة التطبيق تطبيقاً سليماً قد ثبتت كلياً أو جزئياً على الواقع، بعضها مدة طويلة، وبعضها مدة قصيرة من الزمن، وبعضها لم يتقبلها الواقع بسبب عدم ملائمتها،وبعضها بسبب عدم توفر الظروف المناسبة له،ا وبعضها بسبب القوى المتمكنة المعارضة لها، وبعضها بسبب نشوء نظرية بديلة لها وخاصة في مجال العلوم. ولذلك فإن ما يتحقق على الواقع من أية نظرية بطريقة طبيعية يدخل في نطاق الصدق، وما يرفضه الواقع منها يدخل في باب الكذب، وعليه فإن كل نظرية يحكم بصدقها أو كذبها بمدى ما يتحقق منها وبمدى ما يرفض الواقع منها، شريطة أن تكون النظرية قائمة على أسس إنسانية حينما تتعلق بالإنسان، وعلى أسس مادية حينما تتعلق بالطبيعة، وعلى أسس روحية ومادية حينما تتعلق بالعلاقة بين الإنسان والمادة. وإذا كان الإسلام هو أعظم نظرية شاملة للحياة الإنسانية فقد ثبت صدقها في تطبيق مفاهيمها داخل المجتمعات الإنسانية المسلمة وغير المسلمة. أما إذا نظرنا الى النظريات الوضعية الأخرى كالماركسية وخلافها، فلم يبقى منها اليوم سوى ما نقل عن الإسلام أو ما ماثله من المفاهيم العامة للحياة البشرية القابلة للتطبيق العقلاني والفطرة الإنسانية.

وبما أن النوايا هي نظرات أو خطط معلنة أو مضمرة للأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين فإنها تكون كبيرة حينما تصدر عن الحكومة مثلاً في شأن بين شؤون سياساتها، وتكون صغيرة حينما تصدر عن فرد نحو فرد أو جهة صغيرة أو كبيرة، وبقدر ما تتحقق النوايا (الخطط) بالأعمال على الواقع فإنها تكون صادقة، وبقدر ما تفشل فإنها تكون كاذبة، دون النظر الى حسن النوايا لأن في النوايا ما هو حسن وسيئ، فالله يقيس الأعمال بصدق النوايا، أما هنا فمقياسها صدق التنفيذ، حتى وإن كانت النوايا (الخطط) غير صحيحة أو خاطئة. ونحن نعرف كثيراً من برامج الحكومات سواء في اليمن أو بقية الدول العربية التي شطحت كثيراً فيها ثم ثبت أن معظم محتويات البرامج تبخرت بين الأوهام والأماني وبين الفساد على أرض الواقع الناشئ عن الاختلالات الناشئة عن أخلاقيات الكذب وسلوكياته ومنتجاته في تعويق التطور الإنساني والحضاري. ومن المؤسف أن الدول الرأسمالية ذات الفلسفة الليبرالية في الحضارة المعاصرة قد حولت وسائل الإعلام المختلفة الى أدوات للتضليل الإعلامي وخلق الوعي الزائف والسيطرة على توجيه الرأي العام في شتى بقاع العالم، ومن بينها نخب سياسية وثقافية في الدول العربية والإسلامية، من خلال إنتاج صناعة المعرفة اللازمة لإنتاج ثقافة شعبية ممسوخة لا تتصل بالأصل الوطني ولا ترتبط بجوهر قيم حضارة العصر، هدفها إنتاج الانسان الفردي المسلوخ الذي يتغنى منتشياً بالحريات الفردية وتضطرب رغباته وشهواته على أنغام الدعايات الاستهلاكية، بحيث يظل لاهثاً وراء منتجات الاقتصاد السوقي المعولم حتى يصبح هذا الفرد اللاهث مجرد وقود يحترق وطاقة محركة لآلة الاقتصاد السوقي المتزايد والمتكابر. وحين تختلف النظرية عن التطبيق او النوايا عن الأعمال فإن مترادفات أوصاف الكذب في هذه الحالة قد تكون مبالغة او تهويلاً أو إسرافاً أو قصوراً أو نقصاً أو انحرافاً أو خطأً أو فشلاً أو ضعفاً أو مثاليةً أو واقعيةً أو انحطاطاً.


(2) التطابق والاختلاف بين الأقوال والأفعال
ينطبق هذا التوصيف للصدق والكذب على مدى التناقض والتوافق بين الأقوال والأفعال في أعمال الناس وسلوكهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم في الأسرة وفي المحيط الاجتماعي والثقافي والتجاري والسياسي على مستوى الأفراد والهيئات والمنظمات الشعبية والرسمية للدولة والمجتمع. فكل انسان ينصح ويرشد ويراجع ويوجه ويشهد ويعترف ويصرح ويدعي ويخطب ويعلن ويؤكد الى غير ذلك من الأقوال. فإذا كانت هذه الأقوال تتطابق مع أفعاله وأعماله وأخلاقه وممارساته نصف حالته بالصدق، أما إذا كانت أفعاله وأعماله وأخلاقه وممارساته تختلف عما يقول فإننا نصف حالته بالكذب.

وبالمثل فإن هذا التطابق والاختلاف بين الأقوال والأفعال ينطبق على كافة الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين في هيئات الدولة وفي هيئات المجتمع في جميع مجالات أعمالها ونشاطاتها المختلفة. فنحن نسمع كل يوم كثيراً من الوعود والإدعاءات والالتزامات من الأطراف المختصة في مواقع العمل الرسمية والأهلية او عبر وسائل الإعلام الرسمية والشعبية المختلفة. وإذا تم الوفاء بالوعود فإنها تدخل في باب الصدق أما حين يُخلف بالوعود في هذه المعاملات بين الأطراف فإنها توصف بالكذب وقد قيل قديماً ان وعدَ الحُرِ دينٌ ومعنى ذلك ان من كان عبداً للنفاق والكذب لا يؤمن بالحرية كقيمة إسلامية وإنسانية للآخرين. وحين تختلف الأقوال عن الأفعال فإن مترادفات الكذب التي تتصف بها هذه الحالة هي مثلاً الخيانة او التزوير او الخداع او النفاق او الغلط او الإسراف او القصور.


(3) التطابق والاختلاف بين القانون وتنفيذه والالتزام به
ينطبق هذا التوصيف للصدق والكذب على مدى التطابق والاختلاف بين القانون وبين الالتزام به وتنفيذه. ويقصد بالقانون هو الدستور والقوانين والنظم والأعراف والأخلاق والقيم الاجتماعية التي تدخل في دائرة الشريعة الإسلامية والقانون يبين الأشخاص والأطراف التي ينطبق عليها القانون ويحدد حدود الالتزام به وأدوات تنفيذه والرقابة عليه والمخالفات والخروجات عليه، كما يحدد أيضاً العقوبات. وكل التزام بالقانون هو تصديق به ويدخل في تعريف الصدق وكل مخالفة او خرق للقانون هو تكذيب به ويدخل في تعريف الكذب الذي هو خيانة للشريعة والقانون اللذين يقومان على وجوب الالتزام بما هو نافع للناس ووجوب تجنب ماهو ضار للناس. وكل الجرائم والمخالفات للشريعة والقانون تدخل تحت تعريف الكذب.

ولو راجعنا جميع مفردات الكذب لوجدنا إنها تخالف أحكام القوانين. ومن هنا تنبع أهمية سيادة القانون المرتبط بقيم المساواة والعدالة والحق والإنصاف والاستقامة والتقوى والإخلاص والوفاء وغيرها النابعة من الصدق في القول والعمل. أما الإخلال والمخالفة للقوانين المعمول بها وتعطيلها او تحريفها او تأويلها بالسوء فتدخل في باب الكذب والتكذيب لحقوق الانسان والمجتمع من ناحية والتكذيب لواجبات الدولة والمجتمع من ناحية أخرى وهو ما يؤدي الى الظلم والجور والباطل والدمار والهلاك والفوضى وسيطرة شريعة الغاب. ولو تصفحنا فقط قانون الجرائم والعقوبات في الدولة لوجدنا عشرات الألفاظ الواصفة للجرائم التي يعاقب عليها القانون تدخل في مفهوم الكذب والتكذيب التي ذكرناها او لم نذكرها في هذا المقام.


(4) التطابق والاختلاف بين الموصوف وصفاته
ينطبق هذا التوصيف للصدق والكذب على التطابق والاختلاف بين الموصوف وصفاته على الانسان والحيوان والمواد والأشياء وغيرها في التعامل بين مختلف الأطراف مثل توصيف أحوال الانسان وأخلاقه وأعماله وصفاً مطابقاً صادقاً او وصفاً كاذباً بالزيادة او النقصان بين المديح والذم. ومثل التطابق والاختلاف بين الموصوف وصفاته في العقود والاتفاقيات والمعاهدات والمعاملات بين الدول وبين الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين في كافة المجالات الاجتماعية والتجارية والاقتصادية فيما يتعلق بصفات المواد والسلع والبضائع والأشياء من حيث عددها او نوعها او مقاسها او وزنها او حجمها او عيارها اوحقيقتها او طبيعتها او عناصرها او أصلها أو مصدرها او خلاف ذلك من شروط الوصف وظروفه. فكل اختلاف بين مطابقة الموصوف وبين صفته تدخل في تعريف الكذب والغش والخداع والتزوير والغلط والمخالفة والانحراف والنفاق وغير ذلك من روادف كلمة الكذب. وخطورة الكذب في هذه الحالة تكون في تقييم الرؤساء للمرؤوسين على كافة المستويات في الدولة والمجتمع لان اختيار النخبة لقيادة الدولة والمجتمع تكون كارثة كبرى حين تتفشى الشللية والمحسوبية والمناطقية والمحاباة وعصابات النهب والسلب والرشوة.

ففي التعليم سيتصدر فرص التعليم أسوأ طلاب العلم بسبب علاقات النفاق الاجتماعي مع مدرسيهم وفي أجهزة الدولة سيتربع مناصب الدولة ووظائفها العامة ممثلو هذه العصابات وأربة بطانات السوء فيها وهلم جراً في كافة مناحي المجتمع الثقافية والاقتصادية الخاصة والعامة الذي لن ينتج عنه إلا البوار والتخلف والمظالم وضياع الحقوق الإنسانية التي تنداح رسمياً بالإعلان والتصريح المتوالي من أشداق القات وأوهامه.


(5) التطابق بين الأفعال السابقة وبين الأفعال اللاحقة في الأحوال المتشابهة
ينطبق هذا التوصيف للصدق والكذب في التطابق والاختلاف بين الأفعال السابقة واللاحقة في الأحوال المتشابهة على كثير من المعاملات والتعامل الرسمي والأهلي في قضايا الناس اليومية في جميع المجالات تقريباً وعلى كافة المستويات في المجتمع والدولة مثل المعاملات التجارية في الأسواق والمعاملات الإدارية والأحكام القضائية والإجراءات الضبطية وتنفيذ القوانين واتخاذ القرارات وغيرها من الإجراءات على المستويات الرسمية والأهلية. وحينما يكون الفعل اللاحق مشابهاً للفعل السابق عن نفس الأحوال والقضايا والأمور نصفه بالصدق، وحينما يختلف الفعل اللاحق عن الفعل السابق في هذه الأحوال المتشابهة نصفه بالكذب، ويندرج تحت أوصاف الكذب المختلفة حسبما يناسب الحالة، فقد يكون انحرافاً او غشاً او خداعاً او محاباةً او غدراً او خيانةً او خطأً او مبالغةً او تقصيراً او باطلاً او غير ذلك من المترادفات الوصفية للكذب.

وخطورة هذا النوع من الكذب والنفاق هو ما يدخل تحت وصف «الكيل بمكيالين» او التمييز او التعصب او الفتنة او المحاباة. وبما ان حقوق الانسان في الإسلام لا تقبل التمييز على أساس العنصر او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الرأي او الأصل او الثروة او المولد او غير ذلك فإننا نرى في كثير من الأحيان بعض التصرفات الانحيازية على مستوى الدولة والمجتمع لا تقبلها الأخلاق الاجتماعية او قوانين الدولة ناهيك عن مبادئ حقوق الانسان والشريعة الإسلامية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى