طاغور .. المواطن العالمي والانشودة العذبة في فم الحياة

> «الأيام» علي محمد يحيى :

> في كتابه «مغامرة الفكر» يقول المفكر الإنجليزي الكبير (الفريد نورث هويتهيد) «إن الإنسان- أي إنسان- تشغله اهتمامات محدودة ومركزة، وهي اهتمامات محصورة دائماً في نطاق له أبعاد ثلاثة، بعد الزمان وبعد المكان، وبعد الذات وما يتعلق بها.

وقد قصد ببعد الزمان أن الإنسان يهتم بمشاكل يومه أكثر من اهتمامه بمشاكل أمسه وغده، وبمشاكل جيله أكثر من اهتمامه بمشاكل أجياله السابقة واللاحقة. وأما بعد المكان فقد قصد به أنه يهتم بالدرجة الأولى بقريته، ثم منطقته ثم وطنه وهكذا. والبعد الثالث هو الذات - أي ذاته وما يتعلق بها- إنه ينظر دائماً إلى كل الأحداث من خلال علاقتها بنفسه وبأقرب الناس إليه وبأهله وعشيرته. من بعد هذا التفسير ينتقل (هويتهيد) في ذكاء بارع وبعد تحليل إلى موقف الإنسان العادي، إلى موقف الإنسان المفكر، فيرى أن الإنسان المفكر يكسور كل مثلث الاهتمام عنده والمحصور فيه الإنسان العادي، فيخترق بفكره كل أبعاد الزمن الذي يعيش فيه بصفة دائمة إلى المستقبل، ويترفع بأفكاره فوق البيئة الفكرية التي عاش فيه ليبذرها فوق الأرض، كل الأرض، ويعكس الأحداث القريبة المحدودة التي تصيبه أو تصيب من حوله ليكسبها الطابع الإنساني الواسع والشامل.

هذه الرؤية وهذا العمق المقارن الذي ذهب إليه هذا المفكر الانجليزي (هويتهيد) في بحثه الحضاري الموسوم بـ«مغامرة الفكر» وهو دقيق إلى حد بعيد كما أتصور من خلال رؤيته الفكرية التي جالت في خاطري كثيراً خلال لقاء جمعني قبل أيام خلت بالاديب الأستاذ عبدالرحمن عبدالخالق والأديب الباحث الأستاذ أديب قاسم والباحث الأستاذ أحمد طاهر، حينما كنا في استعراض لمفاهيم الثقافات والمعتقدات عند الشعوب، فاستوقفنا الحديث طويلاً عند تراث وثقافة بلاد الهند منذ أقدم عصورها بمفكريها وفلافسفتها وعظمائها، فكان أن استقر بنا الحديث عند طاغور شاعر الهند وفيلسوفها، ذلك الإنسان الذي وصفه ميخائيل نعيمة بأنه «كان الأنشودة العذبة في فم الحياة ، وأنه كان الجوهرة النادرة في خزانتها، فكانت جوهرة نادرة في خزانته»، وأضاف في وصفه لطاغور «لقد غنّته الحياة وغنّاها وأغنته فأغناها»، فتذكرت أن المناسبة قادمة ليحتفي العالم بأسره بيوم مولده الذي يصادف السابع من مايو الآتي.

من هو إذاً طاغور؟ في ذات يوم طُلب من الزعيم الهندي السياسي الكبير جواهر لال نهرو عند لقائه بشعراء وأدباء الهند أن يتحدث عن رابندراناث طاغور في احتفالية بذكرى مولده.. ويبدو أن نهرو قد وجد نفسه في موضع لا يحسد عليه ليتحدث عن طاغور، فقد شعر بحرج في موقفه، فقال كلمات تشبه الاعتراف المتواضع في تقييمه لطاغور، فاسترسل قائلاً: «ماذا يمكن أن أقول عن طاغور؟ وماذا كان هو؟ أكان شاعراً صاحب إلهام وأحلام؟ أم كان فناناً وموسيقياً؟ أم مؤلفاً مسرحياً وممثلاً؟ أم روائياً وكاتب مقال؟ أم معلماً وإنساناً تربوياً؟ أو فيسلوفاً ورجل علم وأدب؟ أم قومياً ومواطناً عالمياً؟ أم.. أم ..» بهذه الحيرة التي وقع فيها زعيم الهند في وصفه لطاغور، فإن حيرة ومازق كل من يحاول التعرض لهذه الشخصية العجيبة، إنما كمثل من يقع في «متاهة»، من معتقد أن هذا الفيلسوف طاغور، إنما كان غامض الأفكار معقد الأسلوب، وأن هناك ندرة في مراجع دراسته أو البحث في تراثه، ولكن ما أن يقدم أحد على ذلك حتى يكتشف أنه أكثر وضوحاً في سيرته وتراثه من معظم فلاسفة ومفكري هذا العصر، وأسلسهم في الأسلوب، وأبسطهم في التعبير، ولقد كتب عنه الباحثون والكتاب بمعظم ألسن ولغات الأرض، وتركوا عنه كماً هائلاً من المقالات والدراسات والكتب لتلبي حاجة المئات، بل الآلاف من البحوث عن هذا الفيلسوف والأديب والمفكر.

وأتصور أن حيرة أولئك الكتاب والباحثين إنما لأن طاغور طراز غريب من البشر، فهو عالمٌ متكاملٌ من الفكر والفن والإنسانية.. عالمٌ لا يستطيع أحد أن يمس ركناً من أركانه دون الإشارة لبقيتها، عالمٌ ذو طابع حيوي عضوي متكامل.. عالمٌ ممتع ومقنع يتجدد دائماً في اتجاه حب الإنسان للإنسان، وفي اتجاه الإنسانية ومستقبلها كلها، دون تمييز للعرق واللون والعقيدة والأرض والانتماء.

وإذا ما تأمل الواحد منا بنظرة ثاقبة فاحصة نتاج طاغور شعراً ومسرحاً وفلسفة وكتابات وأغاني وموسيقى، فإنه سيلحظ أن هناك رؤى واضحة مشتركة تجمع وتربط كل نتاجاته، وسيكتشف وجود فكرة محددة في ذهنه أراد أن يثبتها في كل تراثه، وظل متمسكاً بها يكررها.. كما يدعم وجودها ويقويها.. فكرة هي بمثابة العمرد الفقرى لكل نتاجه في الأدب والفلسفة والفن- وهي فكرة العالمية - لأنه بالفعل كان عالمي النزعة، واتفق حول هذه الحقيقة كل الباحثون الذين درسوه وبحثوا في تراثه، فوسموه بالمواطن العالمي مثلما وسمه نهرو.

فهو الإنسان الذي يفسر أحلام الإنسانية كلها، أو كما وصفه شاعر اليابان (يونو نوجوشي) بقوله: «إنني أقرأ فيه مشكلة الحياة والعالم».

هذه الرؤى الإنسانية المتعددة عن طاغور قد ارتفعت فوق أبعاد الزمن وحدود المكان وتخلصت نهائياً من كل الاهتمامات التي يطرحها جانباً. هذه الرؤى الواضحة في تراث طاغور في الأدب والفلسفة والفن، التي سبقت الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) قد تفوق بها عليه - على راسل - في مفهوم العالمية في الأدب والفن التي يدعو إليها الفيلسوف البريطاني (شريطة أن تكون بعد دراسة تشريحية دقيقة لظروف العالم اليوم)، وهذا المفهوم هو الذي نادى به ابن جلدته (الفريد نورث هويتهيد) في مؤلفه السابق الذكر بأن انتقال اهتمام الإنسان في أبعاد ثلاثة، الزمان والمكان والذات، وهو تطابق تام في الفكر عند الاثنين (راسل وهويتهيد)، أما عند طاغور، فهي مغايرة تماماً لما دعا إليها الاثنان، فهو يرى أن العالمية لا يمكن أن تكون فوق الأفراد قسراً، بل هي عالمية شاملة للأفراد متضمنة لهم شمولاً ناعماً رقيقاً، حساساً يزكيه الحب والتسامي والتضحية في إطار من الاقتناع التام. إذ أن فكرة الحب عند طاغور التي تشمل الدنيا والآخرة في مفهومها - مفهوم الفكرة - وكما يصفها هو «إنما هي فرس أبيض طيب» فانتقلت به من المحلية إلى الإقليمية ثم إلى العالمية.

حب كبير وصادق متبادل يحدث الإلزام الذاتي الفردي، وهذا الإلزام الذاتي الفردي هو الخطوة الأولى لكي يفكر الإنسان - أي إنسان مهما كانت مكانته - بوصفه مواطناً عالمياً.. وهو الأساس الذي افتقده راسل في دعوته للعالمية. لأن طاغور كان حينها انعكاساً حقيقياً وأصيلاً لظروف العالم، فلقد خلفت الحرب العالمية الأولى آثارها العميقة والمؤلمة في نفسه، فأخذ ينادي بالإخاء الإنساني والتفاهم بين الشعوب، مبشراً بالحب بين الناس بمختلف أجناسها.

ولهذا كان طاغور عالمي النزعة بالرغم من احتفاظه بهنديته العاطفية ومؤكذاً أنه لابد من امتزاج الثقافات الإنسانية كلها، وقال في ذلك عبارته المشهورة: «إن الإنسان فكر، هذا الفكر يسع العالم كله، وأيضاً يسعه العالم كله، كما أن هناك تاريخاً واحداً هو تاريخ الإنسان، وكل التواريخ القومية ليست سوى فصول من التاريخ الأكبر».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى