أحمد محفوظ عمر (نصف قرن من العطاء) الرائد الذي أصدق أدبه

> «الأيام» عبدالرحمن عبدالخالق :

> يأخذك بسحر عوالمه السردية، يطير بك محلقا بجناحين من أثير ليضعك بحنو بين مبتدأ الأشياء ونهايتها.«الجدران الأربعة تحتويني .. والليلة قمراء، وأنا متكئ في صدر الغرفة الباردة، أشغل جزءا من فراغها المحدود، والوحدة تلفني في جوفها الفضفاض من الزوايا الأربع».

منجزه الإبداعي عمّد فن القص في اليمن، ووضعه على عربة لا يُعرف لمسارها حد.

مدهش هو في حياته .. مدهش هو في إبداعه .. ولد وحبا وتربى في (حافة الدبع) في مدينة الشيخ عثمان، بمدينة عدن، حاضرة المدن اليمنية، وموئل المفكرين والمبدعين. به اكتملت دائرة الرجل البسيط، النجار محفوظ عمر والأم المكافحة العظيمة، كان الثاني عشر والأخير بين إخوانه .. سموه أحمد.

«إلى من رعتني طفلاً .. وساعدتني رجلا.. إلى أعز مخلوق لدي .. إلى أمي..»، كلمات بسيطة لكنها مشحونة بصدق العاطفة، ذلك الإهداء الذي كتبه الفتى القاص أحمد لمجموعته الأولى «الإنذار الممزق» (1960).

حاصر الفقر أسرته، وأنهك المرض الطفل أحمد.. أمراض عدة تمكنت منه، بسبب سوء التغذية، لاحقته الحمى وتمكن منه مرض الحساسية المزمن .. يقول «لا أذكر أن مناسبة مفرحة مرت في حياتي، كالأعياد والمناسبات الدينية أو المناسبات الرسمية، إلا وأسقط مريضاً بإحدى الأمراض العجيبة التي أصبحت أفكر الآن كيف تأتيني أثناء هذه الأفراح، وتنتهي بانتهاء الفرح أو العيد».

كان صغيرا عندما فارق أبوه الحياة.. كان الفتى أحمد يومها في أشد حالات المرض «كانت الأسرة تنتظر موتي في كل لحظة، لكن القدر أبى إلا أن يموت أبي وأعيش أنا».

ركام من المآسي والآلام والأحزان هو ما كان يحيط بالطفل والفتى أحمد محفوظ عمر، لم تفت من عضده، لم يستسلم لها، قهرها بالكتابة، بالإبداع، بإرادة لا يقدر عليها إلا من كان مثل أحمد .. نفض غبار الآلام والأحزان من على ظهره، ذهب راجلا إلى حيث يصنع المجد .. وهناك خط اسمه في الصفحة الأولى من سفر الأدب اليمني المعاصر مبدعا متميزا في فن القصة، فأتت قصص أحمد محفوظ عمر الأولى، التي انتظمت كالدر المصفوف في مجموعتيه «الإنذار الممزق» و«الناب الأزرق» تحديدا، أتت صدى فنيا لواقع أيامه الصعبة المعاشة: «اقتربت من نافذة منزلنا وأخذت أقذف بنظراتي من خلالها إلى ذلك الشارع الضيق وقد بدأ بعض الناس يخرجون من منازلهم للصلاة .. ودبيب من الصداع يكاد يفجر رأسي المضعضع المثقل بالهموم، وأخذت استعرض أيضا شريط حياتي القاتم فتزداد بي الحمى اشتعالا، وبينما أنا أخوض هذا الخضم الهائل من الهموم أتاني صوت مخنوق متحشرج بالبكاء ينبعث بضعف من فم أمي، فيحطم البقية الباقية من أعصابي المنهارة ويقول:

«مات أبوك...» فاستدرت إليها بهدوء أذهلها وقد بدت على وجهي صرامة الجندي الشجاع في ميدان القتال وأردت أن أنتقم من الموت الذي عصر أنفاس أبي وذلك بطرده من جسمي الهزيل، وذهب أبي ليتركني أنا ابن العشرين الشاب الذي تتقاذفه (الحمى) يعول أسرته الكبيرة».üü

كتبت صحيفة «النهضة» العدنية في مايو من العام 1955م في إطار تكريم الطالب أحمد محفوظ عمر بفوز قصته (كنت مربية أطفال): «إننا أيضا معجبون كثيرا بقصص الأخ محفوظ، التي تنم عن موهبة واستعداد كبيرين وتبشر بما ينتظره في عالم القصة».

وصحيفة «النهضة» بقولها هذا، إنما كانت تعلن عن ميلاد موهبة أدبية كبيرة، أصبح لها اليوم شأن عظيم في عالم القصة، ولا أخال إلا أنها كانت نبوءة بميلاد طليعة رواد القصة القصيرة في اليمن.

نصف قرن هو عمر البدايات الأولى لأحمد محفوظ عمر في كتابة القصة، أخلص لها وأعطاها جل وقته، فبادلته الإخلاص بالإخلاص، والحب بالحب، فأخلت له مكانا مرموقا ومتميزا بين كتاب القصة في اليمن، هو قلب الريادة.

ومن تلافيف قلبه، ومن بين أصابعه خرجت المجاميع القصصية: «الإنذار الممزق»، «الناب الأزرق»، «الأجراس الصامتة»، «ويا أهل هذا الجبل»، وكتاب ضم بين دفتيه مجموعة من الكتابات التي تجمع بين فن السرد وفن المقالة بعنوان «قطرات من حبر ملون».

ولأديبنا الكبير الأستاذ أحمد محفوظ عمر مجموعة من الأعمال الإبداعية منها ما نشر في بعض الصحف والمجلات، ومنها ما لم ينشر بعد .. من هذه الأعمال :

رواية «مبادئ لا تباع»، رواية «رسائل إلى من يهمه الأمر»، وقصص أخرى: «نقاط الضوء والضوضاء»، «ملامح الضياع»، «أبيع الفل يا شادي»، «أضربُ على الدف فمن يرقص».

يعد الأستاذ أحمد محفوظ عمر من بين أوائل من اخترق ساحة النشر في الصحافة الثقافية العربية، إذ كان في طليعة من نشرت لهم مجلة «الآداب» البيروتية المشهورة، وهو ما يعكس القيمة الفنية والموضوعية الرفيعة لنتاجه القصصي.

أثرى الرائد أحمد محفوظ عمر حياتنا الثقافية والأدبية فوجب علينا تكريمه ألف مرة ومرة.

وعلى اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين أن يكرمه تكريما يليق بمقامه الرفيع، علينا أن نقوم بطباعة أعماله الكاملة.

علينا أن ندرج اسمه إلى جانب المبدعين العرب الكبار، ضمن مشروع اليونسكو «كتاب في جريدة»، علينا أن نقوم بترجمة أعماله إلى اللغات الأجنبية الحية.

هي دعوة نطلقها بملء الفم ونحن على عتبات المؤتمر التاسع لاتحاد الكتاب اليمنيين، المؤسسة الإبداعية التي أسهم محفوظ في بنائها لبنة لبنة، وما زال يعتز أيما اعتزاز بالانتساب إليها.

هوامش
من قصة «يا أهل هذا الجبل»، من مجموعة للقاص تحمل العنوان نفسه.

من قصة «فجيعة أبي»، من مجموعة «الإنذار الممزق».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى