نجوم عدن .. الجرادة

> فضل النقيب :

>
فضل النقيب
فضل النقيب
لم يكن أستاذنا الشاعر العملاق الراحل محمد سعيد جرادة، طيب الله ثراه، مجرد شاعر تتحول الكلمات في يديه من حجارة ملقاة على كل لسان إلى ناطحات سحاب تطاول عنان السماء فيتيهُ فخرا بما أنجز ولكن في تواضع جم يتنزل فيه القصيد كالسلسبيل قادماً من وادي عبقر إلى ألسنة الرواة وأسماع الهواة ومرتادي الفتنـة البـاهرة فـي العيون الساحرة .

ولم يكن أيضا وفقط.. ذلك المحرض الوطني الجهير الصوت تتطامن اللغة العربية إليه كما تتطامن القطا إلى سربها وبلمسة من عصا الجرادة تتحول إلى صقور كاسرة تنهش بمخالب التاريخ وتحوّم بهم الفرسان المغاوير، لكأنما «أبو هاني» «مايسترو» على مسرح بعرض ما بين المحيط والخليج تحتشد فيه الكلمات وتتراصّ لتوقع معزوفة الحياة والخلود وسيمفونية الصراع والبقاء للأقوى تحت وقع القنا وخفق البنود.

هذا النفس الملحمي هو بعض الأسرار النفسية لقصيدة الجرادة، التي تتمشى فيها الحُميّا من مواقع الانتشاء الأرضي إلى آفاق الطيران السماوي والشاعر يتخلس من أثوابه الترابية ليسبح ما بين النجوم يتخيّر من لآلئها الابتسامات والغُصص وتراتيل النشيد الإنساني باتجاه الانعتاق والحرية والمساواة الإنسانية التي كانت حُلُم الجرادة الذي وجد نفسه في ركب الأقوياء الموهوبين الذين يعاملون معاملة الضعفاء المغمورين، ولذلك كان يردد دائماً بيت أبي الطيب المتنبي المشمول بالجبروت والحكمة:

ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روّى رمحه غير راحم

ولم يكن الجرادة أيضاً وأيضاً ذلك المعلم والمفتش الذي أنصفته الموهبة والحافظة واستطالته في العلوم اللغوية والشرعية والفقهية وتبحره في قطاف الثمار اليانعة من بساتين الشعر ووديان الخيال، ولكن الوظيفة ظلمته تصنيفاً وأرهقته عائداً وقعدت به عن سباق المادة، فصرفته عن المطاولة والمصاولة في ميدان غير ميادينه التي يجلّى فيها فكأنه المعني بقول الشاعر :

سكتت بغابغة الكلام وأصبح الوطواط ناطق

وتقدّمت عرج الحمير وأخّرت عنها السوابق

وكان أستاذنا بشهادة ربابنة البحار الثقافية وفي مقدمتهم صديقه الفاضل الأستاذ عبدالله فاضل الذي كان يحلو له مداعبة الجرادة في مقيله العامر بخورمكسر، أحد أبرز ربابنة الكلام الشاحج والصائت، على حد تعبير أبي العلاء المعري، أو الصامت والناطق، على حد تعبير النقاد المحدثين على حد تعبير الذين يقرأون بالمسكوت عنه.

كان الجرادة فوق خط الفقر بشعره ولكن غناه لا حد له، كأنه قارون تنوء بمفاتيح خزائنه العصبة القوية في الإنسانيات والإبداع وقدح البروق واستمطار السحب وإخصاب الأرض وترويض عاصيات القوافي وجامحات العوالي.

الجرادة نوّارة المجالس الذي لم يعرف كيف لا يكون منحازاً إلى المتهورين، ولو ساير الموجة السائدة لكان رحمة الله عليه في وضع يحسده عليه الآخرون ولكنه رآه كفراش الشوك المغطى بالحرير.

الجرادة ترك في كل نفيس منه نفساً وخاصة في أغانيه الخالدة عبر الزمن بين جمهور واسع يرى فيه نجماً تحيط به الكواكب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى