الطبيب والباحث د. نزار غانم في منتدى «الأيام»:عدن عبقرية الروح والمكان ومدينة مصابة بـ (عدوى الإبداع)

> عدن «الأيام» خاص:

>
د. نزار غانم
د. نزار غانم
استضاف منتدى «الأيام» الثقافي عصر الأربعاء الماضي د. نزار غانم، الطبيب والباحث في مجال الفنون والثقافة، في محاضرة ثقافية أوضح فيها مقومات عبقرية المكان والتأثير الذي تمتاز به مدينة عدن، مستعرضا أبعادا تاريخية ثقافية وفنية وانسانية تداخلت على مر المراحل المتعاقبة وامتزجت في خلق صيرورة لمدينة تسطع ألقا على بوابة البحر الأحمر حتى في أشد المراحل خفوتا.

وفيما يلي ننتقل الى محاضرة الطبيب والباحث د. نزار غانم:

تظل «الأيام» على مر المراحل المتعاقبة رسالة غير محصورة في البعد الاعلامي وحسب بل ومختلف الاتجاهات الانسانية، ونموذج للاستمرارية في الفكر المتطور والانجاز الذي لا يقل أهمية عن الاستمرارية والتواصل رغم الصعوبات، فهاهي «الأيام» قد انتقلت من الاصدار الأسبوعي الى الاصدار اليومي ومن ثم الاصدار الالكتروني على شبكة الانترنت، الى جانب منتدى «الأيام» الفاعل والحاضر في مختلف القضايا، وبذلك أعادت «الأيام» الى البلد نكهتها وأجواء الحياة.

في العام 89م كانت البلد تتجه صوب الوحدة، والوحدة هي فرصة أن الأمور تبدأ تتصلح، فنزلت بزيارة الى عدن بعد عودتي الى الحياة المدنية واستكمال أربع سنوات من التطوع في السلك العسكري، وجئت الى مدينتي كمستشرق أو باحث في مدينتي ومسقط رأسي فرحت أفتش عن الذكريات في مناطق ارتبطت بنشأتي وعند زيارتي الى مبنى وزارة الاعلام التقيت أبو باشا - الزميل هشام باشراحيل - وكان ذلك ان لم تخني الذاكرة قبل توقيع اتفاقية 30 نوفمبر، فسألته عما يسعى اليه فأجابني بأنه يعمل على اعادة احياء صحيفة «الأيام» مما دفعني الى الاحساس بأن الاستاذ هشام أدرك المتغيرات قبل وقوعها وضرورة احياء صحيفة «الأيام» التي تعد رئة المجتمع واحياء لتاريخنا.. صحيح ان الصحف التي كانت تصدر في الماضي توقفت وعاد البعض منها الى الصدور، لكن عودة «الأيام» كانت تتسم بوجود رؤية وفلسفة ونكهة وروح مختلفة.

وكان د. مبارك حسن خليفة هو المفتاح الذي عرفنا بعدن في تلك الفترة، حيث استضافنا في برنامج تلفزيوني حواري في 89م، وهذا معناه أن الانسان يستطيع أن يرى من خلال هؤلاء الناس الذين يحملون مشاريع وأفكارا نيرة النور كونهم شموعا تبدد الظلام، وكذلك «الأيام» شمعة قادرة على الاستمرار في الاضاءة وكلما استمدت رؤيتها من حاجات الناس ازدادت وفاء لتلبية هذه الحاجات من خلال سلاح القلم، الذي كما أسلفت بالقول فكر الاستاذان هشام وتمام باشراحيل أن وقته قد حان، ولا أستغرب تطور هذا العطاء بشكل أكبر.

ونحن في الحياة معشر المثقفين دعاة استنارة دعاة بحث عن الحقيقية ودعاة تقديم القدوة الحسنة وهو الأصعب، وقد أخذنا من الجيل الذي سبقنا هذه القيمة الانسانية، لذلك أتمنى أن منتدى «الأيام» يضم بين جنباته العناصر الشبابية لاكمال الحلقة ما بين الماضي والحاضر والمستقبل وتلافي حدوث فجوة في هذه المسيرة التنويرية، وأعتقد أن «الأيام» اذا فكرت في أول اصدار لكتاب «الأيام» أن يكون مجموعة الافتتاحيات التي كان يكتبها الاستاذ الخالد محمد علي باشراحيل رحمة الله عليه لنستطيع ادراك أن هذا الرجل كيف كان يمتلك الرؤية البعيدة في افتتاحيات بلغت قمة توظيف الافتتاحية الى جانب باقي الفنون الصحفية الأخرى، وسنجد الخيط الذي يربط بين كل هذه الكتابات وفتراتها التاريخية وربطها بالواقع الحاضر بما كانت تمتاز به من وعي نخبوي نابع من أكثر من منبر يتقاسم نفس القيم الانسانية من الحق والخير والجمال والحب مع تميز كل شخص في العطاء بأسلوبه الخاص.

وبنفس الشيء اذا تذكرنا عمالقة الشعر الغنائي أمثال أحمد شريف الرفاعي وعلي أمان وعلي لقمان ولطفي أمان وغيرهم، سنجدهم متزامنين في المرحلة الى حد ما لكن ذلك ميزهم بتألق كل واحد منهم بأسلوبه الخاص مما يدل ان المكان يتسع للجميع، والأمر نفسه سنجده ينطبق على الصحافة في حينها أكانت صحافة الباشراحيل أو لقمان أو الجرجرة وغيرهم، وعندما أنظر بنظرة ناقدة الى تلك الفترة أرى أنها تميزت بما أسميه (عدوى الابداع) في البلد كلها، وكان من يريد اثبات مواهبه فالميدان موجود وعليه أن يجود أدواته، وفي تلك الفترة حتى إن قرأناها من منظور تقني يبقى هذا الموضوع بحاجة الى تأمل وبحث لما تميز به.

وبهذا أكون قد كشفت أوراقي فأنا انسان محب ان لم أقل متشيع لهؤلاء الرواد الأوائل ولا أحس بالتكلف أو الغربة عنهم حتى إن لم يجمعني بهم ولو اتصال هاتفي، هذه المسألة تربط بالحدس الذي يحرك الانسان والحب أكبر إلهام وأكبر حدس، وأعتقد في هذه الحالة المكان يتسع للجميع.

عدن بدورها مليئة بالعناوين التي يمكننا الحديث عنها، لكن وجدت أننا بحاجة مطالبين بالوقوف أمام حقيقة يمكن لو قدرنا ترسيخها في وجداننا الجمعي ستسهل لنا التعامل مع أشياء عديدة والتصالح مع الكثير من القضايا التي يمكن يصعب علينا التصالح معها سياسيا وطبقيا وغير ذلك، ولم نفطن بعد الى تلك الحقيقة، التي هي كوزموكوليتية عدن، فمن وحي نماذج فنية بصرية وسمعية سنستعرضها في هذه الندوة سنتيقين من هذه الخصوصية لمدينة عدن وسنتوصل الى توافق على تعريف لها كمدينة.. نحن من خلال الانصات إلى النماذج التي سنستعرضها اليوم ووضع عدن في اطار تأكيد القيمة التاريخية لها ونقصد به القيمة التاريخية التي يكتسبها المكان من خلال خصائصه الجغرافية، والمؤلف المصري الراحل جمال حمدان أتى بعبارة (عبقرية المكان) فهل نحن أمام شيء من هذا القبيل في عدن؟

وهل هذا الشيء بالإمكان أن نطلقه ولا نعترف أن حركة التاريخ هي رسم بياني وصيرورة مع الأخذ بأن هناك مراحل لم تساعد على أن هذه العبقرية تظهر وتتجلى بكل أشكالها ومنها فنون الغناء والرقص، والرسالة التي أريد توصيلها هي احتمال حصول شكل من الاختلاط الذي تسمح به الجغرافية التاريخية لنموذجنا التطبيقي المتمثل الآن بمدينة عدن، سنجد ان العناصر والمكونات تتداخل لتكون شيئا ذا خاصية يصبح الحديث عنها لا يمكن تفسيره فقط بتفكيك المكونات الاساسية التي انصبت فيه، ولأجل تبسيط ما أصبو اليه أقصد انه لا يمكن تفسير الأعلى بالأدنى كما يقولون في المنطق، فالعوامل الثقافية القـادمة مـن الأماكن الأخـرى تتفاعل بحيث تخلق شيئا أكبر من المكونات الأساسية الأولية.

والمدن الساحلية تتشاطأ - وفق هذا المصطلح للاستاذ سمير شميري - في قواسم مشتركة كثيرة في حراك ديموغرافي يصنع الحراك الاجتماعي والثقافي الذي يصنع الحياة، واذا كانت العولمة تقوم الى حد كبير على درجة عالية من الاتصال فمتى كانت العولمة الأولى اذا اعتبرنا أن ما نعيشه الآن العولمة الثانية؟ أنا أقول ان عدن وعبقرية مكانها لعبت دورا في العولمة الأولى، لأن ترويض الانسان للرياح والاستفادة منها في التنقل الى ساحل أفريقيا مثلا في موسم معين، وهذه المواسم لها أسماء عند أهل الشحر ومناطق أخرى، فاكتشاف هذا الشيء سمح بالاحتكاك الديمغرافي في أكثر من اتجاه، وبحسب ما ورد في الوثائق التاريخية ثبت ان أهالي عدن كانوا من أوائل الناس في لعب دور كبير في الوساطة التجارية ونقل البضائع برا وبحرا، والآثار التي ما زالت مدفونة تحت التراب في حال ظهورها ستردم الفجوة المعرفية الكبيرة الموجودة في هذا الجانب نتيجة لغياب قراءة دقيقة للتاريخ ولا تاريخ بدون وثائق، ويكفينا علمنا على الأقل أننا لا نعلم كما لا نعلم، وتلك هي المشكلة.

وموقع عدن سمح لها أن تكون في عصب طريق التثاقف الدولي وليس التجارة فحسب، وأن تكون مركزا مهما جدا من مراكز العولمة الأولى لأنها استوعبت التفاعلات الثقافية التي شهدتها، فالتثاقف مجال واسع لمعرفة الأنا وتكوين الذات وليس فقط لمعرفة الآخر، ونستطيع ان نعيش من خلال نماذج من الابداعات الفنية للمبدعين الأوائل من أبناء هذه المدينة أو ممن عاشوا فيها أو مروا بها أن نعيش جزءا من عبقرية عدن.

ودعوني أكشف لكم عن عكوفي في هذه الآونة على استكمال تأليف كتاب عنوانه (دراسات في الطب والموسيقى) وفيه دراسات تحتوي على جديد في ادهاش من جانب جدة المعلومات، مثلا التنظير الموسيقي في اليمن حيث لم يكن هناك أناس يضعون كتبا في النظريات الموسيقية مثلما كان في دمشق وبغداد كإسحاق الموصلي الذي وضع كتبا في النظريات الموسيقية وأبو الفرج الاصفهاني واضع أكبر مجموعة كتب في التراث الاسلامي عبارة عن عشرين مجلدا عنوانها (الأغاني) لنصل الى أننا هنا لم نجد من يضع النظريات حول فننا.. إذن بالرغم من جميع المخطوطات التي تتحدث عن الموسيقى في اليمن واطلعت عليها فقط في عدن وجدت مخطوطات تتناول النظرية الموسيقية ود. أحمد رابضة موجود أو المطلعين على التاريخ الوسيط خاصة العصر الرسولي سيؤكدون أن هناك شخصا وجد اسمه محمد ابن أبوبكر الفارسي وكان متعدد الانتاج سواء في الفلك والتقويم والطب وتأثير السموم وله مخطوطات باسم (دائرة الطرب ورسالة في الالحان) كما تجد في مكتبة الأحقاف في تريم والمكتبة الغربية في الجامع الكبير بصنعاء وغيرها فيها مخطوطات له، وكان دائما هذا الموضوع شاغلا للفقهاء فيما يسمى السماع ما بين تحليله أو تحريمه، والجميع يعلم أن هناك آراء متناقضة في هذا الموضوع وهناك من يجد خطا وسطا منهم الإمام الغزالي وعلى المستوى المحلي الإمام الشوكاني قال ان هذا الموضوع يدخل في علم الخلاف وانه حرم من المذاهب الأربعة، لكنه ما يزال داخلا في علم الخلاف، وعديد من الكتابات حول هذه القضية، وبالعودة الى كتابات الفارسي نجدها تتكلم عن الموسيقى والايقاعات والمقامات ودراسته على يد الشريف أبو الفضل، الذي كان في عدن.

ويذكر في كتاباته الخزرجي والجندي ويؤكد من أخذ ونقل عنهم، وقد توصل أسد الحبشي الى نسبه بدقة وبين أن والده قدم من فارس الى عدن وأنجبه هنا أي أنه ابن لهذه المدينة، فعدن نموذج للاعتدال الذي يأتي من رفض النقاء المطلق، واذا بدأ المرء بالتفكير بغير هذا المنطلق سيسلب عدن التي هي تربة اليمن، فعدن ليست مجرد جزيرة فلها من الامتداد الديموغرافي والاقتصادي وفي مختلف الاتجاهات ما يجعلها ثغر الوطن.

من خلال ما سبق نجد أن الجغرافيا التاريخية تقدم لنا التفسير والدلالة على مكانة عدن وروح عبقرية مكان عدن، التي كان يسميها علي لقمان مدينة العباقرة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى