عدن في عيون الشعراء وتحت مجهر الأستاذ الهمداني

> «الأيام» فاروق لقمان:

> تلقيت منذ أيام نسخة من كتاب أثار في نفسي أشجاناً لا حصر لها، وأعرف أنها لن تنتهي، فهي حكاية حب متجدد وحنين لا ينقطع .. وهو كتاب «عدن في عيون الشعراء» إشراف وتحرير أ.د. أحمد علي الهمداني، وإصدار جامعة عدن للطباعة والنشر عام 2005م.

وقد أحسنت الجامعة صنعاً بتكليف لجنة راقية للتأليف مكونة من الدكتور الهمداني، رئيساً، والأساتذة العظام محمد كريم إبراهيم الشمري، وجعفر الظفاري، وأحمد حسين بالو، وعبدالكريم الحنكي.

وبعد الغلاف، تحولت كعادتي في قراءة الكتب إلى الغلاف الأخير للاطلاع على ما يقوله الناشر أو ما يحتويه من معلومات عن المؤلف، لأتلقى هدية ثانية- الأولى كانت عنوان الكتاب نفسه - وهي قصيدة الدكتور الهمداني عن «عدن المنى هي موطن الدنيا وأحلام الجمال وكعبة العلماء» حتى وصل إلى لحج لحن الغرام النائي.

إلاّ أن المتعة البالغة وصلت أوجها عند قراءتي أكثر من مرة دراسة الأستاذ الهمداني الرائعة عن «عدن في الريادة الزمنية إلى الريادة الإبداعية» ولم أترك سطراً إلاّ أعدت قراءته إعجاباً بهذا الباحث الدؤوب والكاتب القدير، الذي أوجز تاريخ عدن بكل جوانبه في عدة صفحات، كل جانب حسب قوله يستحق أن يشكل مادة لدراسة مستفيضة في الأعوام القادمة. وأكاد أجزم بأن عشرات من الجامعيين الحاليين الذين حظوا بالتلمذة والاستماع إلى محاضراته، سينكبون يوماً ما على تحقيق تنبؤاته، فالموضوع واسع النطاق، سعة علم الأستاذ الهمداني، لأنه شمل السياسة والأدب والحركة الوطنية التي ارتبطت به، والنهضة الفكرية التي جعلت من عدن نبراساً لكل اليمن ومركز إشعاع لبقية أرجاء الجزيرة العربية، بالرغم من أنها كانت تقع ضمن الإمبراطورية البريطانية، أو ربما لأنها كانت كذلك، ضمت أجيالاً مستنيرة من بقية المستعمرات التي امتدت من أقاصي الهند إلى أفريقيا وبقية الدول العربية في عصر التنوير المصري والعراقي، قبل إصابتها بالوباء الدكتاتوري والكارثة الشيوعية التي حلت بها ردحاً طويلاً من الزمن.

نجح الأستاذ الهمداني في إعادة تأهيل تاريخ عدن، الجزء الذي لمع من اليمن الأم لأسباب تاريخية، فصّلها المؤلف، لأن اليمن الأم كانت مبتلاة بحكم أوتوقراطي شديد التخلف والجهل المطبق بعد فترة مطولة من الحكم العثماني المؤسف، في فترة احتضاره التي انتهت بموته بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى 1914-1918م.

وأكاد أجزم أن دراسة الأستاذ الهمداني في السياسة والأدب والشعر- وهو أحد ألمع فحوله كما لمست شخصياً خلال زيارتي لمسقط الرأس منذ أعوام - أضاءت معالم من تاريخ عدن اليمنية كانت مبهمة، وكشفت حقائق عن عصر التنوير، كان النظام الشمولي المنحل قد كرس كل جهوده التعسفية لطمسها وإنكارها والإساءة إلى أهلها الأشاوس، الذين جعلوا منها حقاً مركز جذب لسكان الجزيرة العربية وأفريقيا والهند والشام وقبرص واليونان، لذلك كانت تلك القطعة الغالية من الوطن الأغلى - الذي كان مغلوباً على أمره- ملتقى ثقافات متنوعة بعضها كانت نتاجاً لعصر التنوير الأوروبي، منها مصر التي أسهم مثقفوها في تعليمنا في المدارس الابتدائية والثانوية عدة أجيال متتالية.

ولما كنت معجباً بآراء الدكتور طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» - آخر مرة قرأته قبل عامين - ظللت مشدوهاً بدراسة الأستاذ الهمداني، رغم أنها اختلفت عن «مستقبل الثقافة في مصر» لأن كتاب الدكتور طه حسين كان عبارة عن محاضرات ولو أنها متماسكة ومترابطة، بينما دراسة الأستاذ الهمداني ألفت وحدة واحدة لعله كتبها بدون انقطاع إلاّ للعودة إلى المصادر العديدة التي استعان بها من قصص ودواوين ومسرحيات عصر التنوير اليمني الذي كان موقعه في عدن المستعمرة.

وكما كان لي حسن حظ المولد والانتماء إلى الموقع، كان لي عظيم الشرف في معرفة العديد من جهابذة عصر التنوير، الذي أعاد الأستاذ الهمداني تأهيله وتأصيله وتأطيره وتأريخه. فالوالد محمد علي لقمان كان أستاذي الأول حتى وفاته عام 1966م، وأخي علي محمد لقمان كان معلمي في الصحافة -كان أول خريج صحافة جامعي- ومحمد عبده غانم كان صهراً ومربياً من الدرجة الأولى، ولطفي جعفر أمان مدرساً رائعاً لي في اللغة العربية في كلية عدن مع هاشم عبدالله، صاحب كتاب «جزيرة العرب» وإن كان لا يفصح عن ذلك إلاّ للخلص من أعضاء مخيم أبي الطيب، كما عرفت معظم شعراء وأدباء التنوير الذين ذكرهم هذا الاستاذ الأكاديمي الضخم، من إدريس حنبلة إلى علي عبدالعزيز نصر، إلى محمد سعيد جرادة، الذي نعى الوالد بواحدة من أعظم المرثيات في التاريخ الحديث.

وإذا كان ميلاد «فتاة الجزيرة»، كما يقول الأستاذ الهمداني حدثاً تاريخياً واجتماعياً فكرياً كبيراً، عكس نفسه على مجمل نشاط الحركة الأدبية الفكرية في البداية، ومن بعد على الحركة الوطنية اليمنية، أدت عدن دوراً مهولاً في إيقاظ الوعي التحرري في كافة أرجاء اليمن. ولازلت أتذكر زياراتي مع الوالد لرواد حركة الثورة اليمنية في منزلهم الكائن في شارع الشيخ عبدالله بجانب جامع البهرة القريب من مدرستي الابتدائية الخالدة التي كان اسمها «ريسدينسي»، ثم «السيلة»، وأيضاً زيارات أركان الثورة محمد محمود الزبيري وأحمد محمد نعمان والموشكي والحورش إلى دار «فتاة الجزيرة» ومخيم أبي الطيب. ثم تجنيد الوالد، رحمه الله، لي للقيام بطي أعداد «فتاة الجزيرة» لإرسالها سراً إلى أطراف الوطن الأم، لتسريبها بعد ذلك إلى ذبحان والتربة وبعدان وتعز، لتصل من هناك إلى إب والعدين وجبلة ثم صنعاء وبئر العزب.

لكن رغم تلك الحميمية ومعايشتي للوالد والأخوان الكبار الذين تألقوا في دراسة الأستاذ الهمداني، فإن معرفتي بعصر التنوير في عدن اليمنية ظلت بحاجة ماسة إلى المزيد من الأضواء من تاريخ وشرح وتحليل كما فعل الأستاذ الهمداني، وكأني به قد زودني بمجهر إلكتروني حديث، كبرت عدن تحت زجاج قاعته حتى ملأت سطح مكتبي في كلية عدن العتيدة، وبدأت أسائل نفسي بكثير من الذهول: هل هذه البلدة حقاً كانت مسقط رأسي من بساتين الطويلة إلى بساتين الكمسري الشيخية ومن بنجسار التواهي إلى بئر أحمد والبريقة؟ هل كنت حقاً أنهل من توأم لمدينة البندقية في عصر تنويرها أو قاهرة «الرسالة» وبيروت «الأديب»؟ هل قصرت دون قصد في إعطاء عدن حقها الشرعي وأنا مقيم في حافة حسين، ثم الرُزميت أتشرب نتاجات مخيم أبي الطيب في دار «فتاة الجزيرة»؟

الحديث عن عدن ذو شجون ليس لها حدود، وإذا كنت قد قرأت بعض الكتب نثراً وشعراً عدة مرات خلال العقود الماضية، فإنني على يقين بأنني سأعود إلى «عدن في عيون الشعراء»، بقية العمر بحب يتنامى مع مرور السنين، وحنين ملأ كل صهاريج الطويلة وفاض حتى وصل عبر السيلة إلى شاطئ الرزميت وتجاوزه إلى ساحل أبين ومنه إلى كل اليمن الحبيب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى