وداعا فارس الجنوب الأسمر

> علي ناصر محمد:

>
علي ناصر محمد
علي ناصر محمد
بعد موجة التفاؤل العارم والآمال العريضة التي غمرت الأوساط السودانية والأوساط السياسية المهتمة بالشأن السوداني وجيران السودان وأشقائه ومحبيه، والتي أعقبت التوقيع النهائي على اتفاقية إنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، الحرب التي استمرت سنوات طويلة قتل خلالها ما يزيد عن مليوني مواطن سوداني وملايين المشردين ، وبعد سنوات من المباحثات الشاقة والصعبة التي تنقلت بين أكثر من مدينة وعاصمة عربية وافريقية، بعد كل هذه الآمال العريضة، فجع كل محبي السودان والحريصين على أمنه واستقراره وسلمه الأهلي بأخبار الكارثة الأليمة التي حلت بنائب الرئيس السوداني العقيد جرنج، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، الذي يعد من أهم أركان معادلة السلم والحرب في السودان، والذي فقدت طائرته في ظروف غامضة خلال رحلتها المشؤومة بين العاصمة الأوغندية كمبالا وجنوب السودان، ليعلن فيما بعد عن تحطمها ومصرع كل ركابها وطاقمها بمن فيهم العقيد جرنج.

هكذا شاءت الأقدار أن لا ينعم الرجل - الذي حمل في قلبه هموم وآلام وآمال وتطلعات أمته إلى السلام والاستقرار والحياة الكريمة - بثمار جهده وعمله المتواصل خلال سنوات طويلة من أجل سودان ديمقراطي تعددي مستقر ومزدهر، يتساوى كل أبنائه في الحقوق والواجبات دون النظر إلى دينهم أو عرقهم أو انتمائهم، لم تمهله الأيام ليرى ثمرة ما زرع ويشاهد أحلامه تتحقق على الأرض، وبرحيله الذي أصاب كل أبناء السودان ومحبيه بصدمة عنيفة، أصبح مصير اتفاقات السودان على المحك، والواجب يقتضي من كل أبنائه الخيرين العمل على مواصلة مسيرة السلام والبناء لخير وأمن واستقرار السودان.

تعرفت على العقيد جرنج أول مرة في عدن بداية ثمانينات القرن الماضي، بوجهه البرونزي الصارم، كان حينها في ذروة حماسه ونشاطه الوطني والإنساني، وتأثرت برؤيته لمستقبل السودان، وحرصه على وحدته، واستقراره، على اعتبار ذلك ضماناً لاستقرار المنطقة كلها. وقد أعرب عن تأثره بتجربتنا في اليمن الديمقراطية، التي كانت حاضنة لكل حركات التحرر، وملاذاً لكل اللاجئين السياسيين الهاربين من أنظمتهم وحكامهم، وأعرب عن تأييده لجهودنا من أجل وحدة اليمن، وعن حرصه على إقامة أفضل العلاقات بين شعبينا، وحزبينا.. وكانت زيارته لعدن هي امتداد لسلسلة الزيارات واللقاءات التي قامت بها قيادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي بذلت جهودا لمساعدة السودان على تحقيق لقاء مصالحة بين الرئيس جعفر النميري والعقيد جون جرنج، والتي لم يكتب لها النجاح، ثم أعقبتها محاولة أخرى في عهد الرئيس السوداني عبدالرحمن سوار الذهب، والتي حاولنا عبرها عقد لقاء مصالحة بين سوار الذهب والرئيس الاثيوبي منجستو هيلا ماريام والعقيد جرنج، ولم نفلح في ذلك ايضا، ثم رتبنا لقاء آخر في عدن بين وزير الدفاع السوداني عثمان عبد الله وجون جرنج، ولكن محاولاتنا خابت مجددا بحكم مشكلة الجنوب العميقة والمستفحلة، وعجز قيادة الشمال عن معالجة هذه الأزمة بشكل جاد وصادق وشجاع، بعيداً عن استغلالها في الصراعات بين القوى السياسية على السلطة ومغازلة الجيران والقوى الدولية، وكنت أدرك أن الجرح عميق في جسم الوحدة الوطنية وأن القرار ليس بيد المتصارعين.

كان الشماليون يستخدمون سلاح الإسلام في وجه الجنوب المسيحي والوثني، ويستخدمون سلاح الوحدة في وجه الانفصال والمتمردين الجنوبيين (كما كانوا يسمونهم)، والجنوبيون كانوا يراهنون على الوقت ومحاولة إنضاج الظروف لتحقيق مشاريعهم.. وكان جون جرنج يردد دائماً أن بعض القادة السودانيين «وحدويون نهاراً وانفصاليون ليلاً»، في إشارة إلى حوارهم معه سراً في حين يعلنون عكس ذلك جهاراً، وذكرني ذلك بما كان يتردد في اليمن في أثناء حروب الجمهوريين والملكيين عن بعض رجال القبائل «الملكيين ليلاً والمجمهرين نهاراً».

وأذكر أن جون جرنج أكد لي مرة في عدن «أنه مع وحدة السودان القوي والمزدهر والديمقراطي، وأنه ليس متعدد الوجوه ولا يحب تبديل القبعات، بعكس الذين يتحدثون عن وحدة السودان ويسعون ليل نهار وبين كل صلاة وصلاة إلى تدميره» حسب تعبيره، وشرح لي يومها أن مشكلته الأولى تكمن في أنه «مسيحي ملحد»، كما ينعته البعض كالترابي والنميري، في حين يعتبر نفسه «أكثر إيمانا من الذين يتكلمون عن الإسلام وهم يصدّرون يهود الفلاشا إلى فلسطين»، وكانت مشكلته الثانية أنه لا يتكلم اللغة العربية بشكل جيد، و لكن هذا لا يقلقه لأنه لا يسعى لحكم السودان، بل «يحلم فقط أن يعيش في سودان مستقر وآمن»، هذه كانت رؤيته لمستقبل السودان.

لقد كان الرجل صادقاً في مواقفه التي تبنتها حركته، الحركة الشعبية لتحرير السودان، وكان ينادي بالفصل بين الدولة والدين، مردداً أن الدين لله والسودان للجميع الذين يجب أن يتعايشوا تحت مظلة السودان والإسلام والمسيحية.

التقيت قبل جون جرنج وبعده عدداً من الزعماء السودانيين، وحاولنا تقريب وجهات النظر لوقف الحرب وتحقيق السلام في الجنوب، وأذكر كيف اتهمني حسن الترابي حين التقينا في طرابلس أبريل من عام 1989م، بالانحياز للرئيس الأثيوبي منجستو والعقيد جون جرنج، واصفاً المعركة بأنها مع «الكنائس العالمية والمسيحية في الجنوب»، وقد أوضحت له في هذا اللقاء وفي لقاء آخر استمر أكثر من أربع ساعات في القرية السياحية على شاطئ الساحل الليبي بطرابلس أن السلام يجب أن يعم السودان وأنه لا يمكن نشره بقوة السلاح، وأنه سيدرك مستقبلا هو وغيره أن جون جرنج ليس انفصالياً، وهذا الرأي كررته مع رئيس الوزراء السوداني السيد الصادق المهدي بحضور السفير أحمد الحردلو خلال زيارته لصنعاء عام 1988م، وفي جوابي للسيد أسامة الباز مستشار الرئيس المصري على سؤاله عن العقيد جون جرنج حيث قلت : لا سلام ولا وحدة للسودان اليوم من دونه، فهو رجل وحدوي يجب الاهتمام به والحوار معه باعتباره من أهم القيادات الوطنية السودانية الجنوبية المثقفة والواعية والمؤمنة بوحدة السودان وبوحدة وادي النيل وأمنه واستقراره. وقد جرى هذا الحديث في تشييع جنازة المرحوم باسل الأسد في القرداحة عام 1994م، وأكد لي الباز بعدها بسنوات حين التقيته في مصر صحة تقييمي للوضع في السودان، وبعدها جرت عدة لقاءات بين جرنج والحكومة المصرية على أعلى المستويات، حيث استقبله الرئيس المصري حسني مبارك، الذي أكد للأستاذ مكرم محمد أحمد في حديث لمجلة «المصور» في يوليو 2001م أن جون جرنج وطني ووحدوي، ثم جرت لقاءات في سويسرا بين أنصار من يسمونهما: «الكافر جون جرنج!» و «المسلم حسن الترابي!» وجرى اتفاق بينهما اعتقل على أثره الترابي، إذ اعتبرته الحكومة السودانية بمثابة إعلان للحرب، ولأن جون جرنج كان قوياُ في موقفه الوطني الوحدوي أولاً، وفي أنه يمتلك جيشاً مسلحاً ومنظماً ثانياً، فقد تنقل من بلد إلى بلد للقاء الصادق المهدي والمرغني والترابي وغيرهم من القيادات التي سعت أيضاً للاجتماع به لطلب وده وتشكيل قيادة للمعارضة معه بعد أن حاربوه سنين طويلة، فيما حاول قادة النظام إجراء المفاوضات والحوارات معه في أديس أبابا ونيروبي وغيرهما من العواصم العربية والأفريقية، وطالما تساءلت، لماذا أضاعوا كل هذه السنين من عمر السودان؟ ولماذا أهدرت دماء مليوني سوداني من الشمال والجنوب في حرب أكلت الزرع والضرع والنسل؟

والتجربة السودانية لا تختلف كثيراً عن التجربة اليمنية قبل الوحدة اليمنية، الجنوبيون «انفصاليون وشيوعيون وملحدون وكفرة وعملاء لموسكو في العهد السوفييتي» والحكام الشماليون «رجعيون وخونة وعملاء للأمريكان والدول المحافظة» ، وكلٌ كان يحاول أن يملي تصوراته وأن يفرض رؤاه وشروطه، ولكن في المحصلة النهائية لم تتحقق الوحدة بالحرب وإنما تحققت بالحوار.

وبعد أكثر من عشرين سنة من الصراع والحروب بين الشمال والجنوب، احتكم الطرفان للغة الحوار في 18 يونيو عام 2002م، فيما سمي باتفاق «ماجاكوس» في كينيا. وقد استقبل الشارع السوداني نبأ الوصول إلى اتفاق بين الحكومة والحركة الشعبية التي يتزعمها جون جرنج بكثير من الأمل والفرح، كما أجمعت القوى السياسية على الترحيب به ووصفته بالإنجاز التاريخي والطريق إلى تحقيق السلام وإنهاء فصول المأساة الإنسانية التي يعانيها أهل السودان خاصة في جنوبه، وبعد ثلاثة وعشرين شهراً من اتفاق «ماجاكوس»، جرت مفاوضات بين الحكومة السودانية وحركة جون جرنج، توجت بتوقيع اتفاق 26 مايو 2004 بشأن اقتسام السلطة والثروة ، تكلل ذلك بالتوقيع النهائي على اتفاق السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في يناير 2005م الذي وضعت بفضله الحرب أوزارها، ونأمل أن يكون ذلك بداية لعهد جديد و مستقبل مشرق لهذا البلد الشقيق، وأن تستطيع الحكومة السودانية الحفاظ على وحدة السودان وإقناع جموع السودانيين بالتعايش ضمن دولة واحدة ترضي كل الثقافات والأعراق والأديان والإثنيات .

كانت العلاقات بيننا طيبة وعميقة، ولا أنسى وقوفه معنا أثناء أحداث يناير 1986م، انطلاقا من موقفنا الموحد من أهمية وحدة اليمن والسودان، فقد كنت وجون جرنج على اتصال مستمر في المناسبات العديدة وكلما سنحت لنا الظروف، وكان آخرها ما جرى بيني وبين مستشاره الأخ منصور خالد وزير الخارجية السوداني السابق خلال زيارة جرنج إلى القاهرة - وكنت هناك - في يوليو الماضي لتوقيع الاتفاق النهائي مع الرئيس عمر البشير وبمباركة مصرية، وكان من المقرر أن التقيه لكن الأخ منصور خالد أبلغني تحيات جرنج واضطراره للسفر المفاجئ بينما كان في طريقه إلى مطار القاهرة، مغادراً إلى محطة أخرى من محطات أسفاره الكثيرة ولم أعرف يومها أني للأسف لن ألقاه ثانياً.

سيذكر الكثيرون العقيد جون جرنج نائب رئيس جمهورية السودان رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، بوصفه رجلاً دمث الأخلاق واسع الثقافة صلب الإرادة شديد الإيمان بمستقبل السودان الديمقراطي التعددي المزدهر، ولا شك أن رحيله كان خسارة كبيرة للسودان، والأمل- كل الأمل - أن يواصل نائبه سلفاكير ورفاقه وأصدقاؤه وكل الأوفياء من أبناء شعبه رسالته من أجل بناء سودان ديمقرطي مزدهر.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى