جندب ابن جناده (زعيم المعارضة وعدو الثروات) بشير الكافرين بمكاو من نار ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر

> «الأيام» م. محمد شفيق أمان:

> لم يكن الغفاري أشد ضيقاً من شيء مثلما ضيقه من استغلال السلطة واحتكار الثروة، إلا أن شيئاً من هذا لم يكن ظاهراً على عهد الرسول [ ومن بعده الصديق ثم عمر، فأتاح له ذلك الطمأنينة والرضى وتفرغ لعباده ربه والجهاد في سبيله، بيد أن رحيل هؤلاء قد ترك وراءه فراغاً هائلاً، وعلت معه الرغبات والتطلع إلى مناعم الحياة وترفها، فيرى أبو ذر الخطر، يرى المال الذي جعله الله خادماً مطيعاً للانسان يوشك أن يتحول إلى سيد مستبد، يرى السلطة تتحول إلى سبيل للسيطرة والثراء والترف المدمر الوبيل، رأى كل ذلك وراح يمد يمينه إلى سيف يهز به الهواء ويمزقه لكن سرعان ما رنّ في فواده صدى وصية الرسول [ «اصبر حتى تلقاني» فأعاد السيف إلى غمده وراح منشغلاً بتعليم الناس أنهم جميعاً شركاء في الرزق وأنه لا فضل لأحد على أحد الا بالتقوى وأن أمير القوم ووليهم هو أول من يجوع إذا جاعوا وآخر من يشبع إذا شبعوا.

وفي أمد قصير رأى الثائر المعارض الكثير من الأملاك والترف والاستعلاء والتمايز والجشع والفتون بالحياة والتهالك عليها فخرج إلى معاقل السلطة والثروة يغزوها بمعارضته معقلاً معقلاً رافعاً شعاره الذي اتخذه الناس عنه نشيداً يرددونه «بشر الكافرين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة» فكان لا يدخل مدينة أو يواجه أميراً الا وهذه الكلمات على لسانه وإذا بصره الناس قادماً استقبلوه ببعض منها «بشر الكافرين بمكاو من نار».

حسر زعيم المعارضة يوماً رداءه المتواضع عن ساقيه وسابق الريح إلى الشام، إلى هناك حيث معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه يحكم أرضاً من أكثر بلاد الإسلام خصوبة وخيراًُ وفيئاً، حيث يوزع الأموال بغير حساب ويخص بها الذين لهم مكانة عنده ليؤمن بها مستقبله الذي كان يرنو إليه طموحه البعيد، ولم يكد العوام من الناس يسمعون بمقدمه حتى استقبلوه في حماسة وشوق والتفوا حوله يقولون «حدثنا ياصاحب رسول الله»، فيلقي أبو ذر نظرات فاحصة فيهم، فيرى أكثرهم ذوي خصاصة وفقر، ثم يرمي ببصره نحو المشارف القريبة، فيرى القصور والضياع ثم يصرخ قائلاً: «عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه»، ثم يتذكر من فوره وصية الرسول [ أن يضع الأناة مكان الانقلاب، والكلمة الشجاعة مكان السيف، فيترك لغة الحرب ويعود إلى لغة المنطق والإقناع، وفي أيام قلائل استطاع حصر اهتمامه في خلق رأي عام يفرض احترامه وصارت كلماته حديث الطريق والمجالس والمساجد.

وقف أصدق العالمين لهجة كما وصفه أستاذه رسول الله[ بعد أن بلغ خطره على الامتيازات الناشئة مداه، وقف يوماً يناظر معاوية على ملأ من الناس في غير خوف ولا مداراة ويسأله عن ثرواته قبل أن يصبح حاكماً، وعن ثروته اليوم؟! عن البيت الذي كان يسكنه بمكة، وعن قصوره بالشام اليوم، ثم يوجه السؤال نفسه إلى الجالسين حوله من الصحابة الذين صحبوا معاوية إلى الشام وصار لبعضهم ضياع وقصور، ثم يصيح فيهم جميعاً أفأنتم الذين نزل القرآن على الرسول وهو بين ظهرانيهم؟ أما وجدتم في الكتاب هذه الآية {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهن هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} ويتابع ناصحاً معاوية ومن معه أن يخرجوا عن كل ما بأيديهم من ضياع وقصور وأموال وأن لا يدخر أحدهم لنفسه أكثر من حاجات يومه!

يستشعر معاوية الخطر، وتفزعه الكلمات لكنه يعرف منزلة أبي ذر، فلا يقربه بسوء، ويكتب من فوره إلى الخليفة عثمان، إن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام!! فيستدعى عثمان أبا ذر ويعود الأخير في يوم لم تشهد دمشق مثله من أيام الحفاوة والوداع.

لاحاجة لي في دنياكم
وصل زعيم المعارضة المدينة، وجرى بينه وبين عثمان حوار طويل، أدرك بعده عثمان خطر دعوة أبي ذر وخطورتها، فقرر أن يحتفظ به إلى جواره في المدينة، محدداًَ بها إقامته، عارضاً عليه القرار برفق ورقة قائلاً له «ابق هنا بجانبي، تغدو عليك اللقاح وتروح» فيجيبه أبو ذر: لا حاجة لي في دنياكم، ويطلب منه الإذن بالخروج إلى (الرُّبذة) فيأذن له عثمان.

في يوم جاءه وفد من الكوفة يسألونه رفع راية الثورة ضد الخليفة فزجهم بكلمات حاسمة: والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة أو جبل لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت ورأيت ذلك خيراً لي.

أدرك أبو ذر ما تنطوي عليه الفتنة المسلحة من وبال وخطر فتحاشاها كما أدرك ماينطوي عليه الصمت من وبال وخطر فتحاشاها أيضاً ورفع صوته -لا سيفه -بكلمة الحق ولهجة الصدق، لا أطماع تغريه، ولا عواقب تثنيه. لقد تفرغ أبو ذر للمعارضة الأمينة وتبتل وكان يعرف ضراوة الدنيا وضراوة المال، وكان يدرك أن أبا بكر وعمراً لن يتكررا، ولطالما سمع النبي يحذر أصحابه من إغراء الإمارة ويقول عنها: «إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها».

كان أبو ذر يدرك بوعيه المضيء، ما للحكم وما للثروة من أثر حاسم في مصائر الناس ومن ثم فإن أي خلل يصيب أمانة الحكم أو عدالة الثروة يشكل خطراً داهماً يجب دحضه ومعارضته، كان يقول الحق وإن كان مراً، لا يخاف في الله لومة لائم، قال الإمام علي: لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر.

فاضت روح أبي ذر في الربذة المكان الذي اختار الإقامة فيه إثر خلافه مع عثمان، وزوجه وولده يجلسان إلى جواره ويبكيان، وتمر قافلة تؤلف جماعة من المومنين وعلى رأسهم عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله [ يقترب منهم ولا يكاد يلقي نظره على الجثمان حتى تقع عينه على وجه صاحبه وأخيه في الله أبي ذر فتفيض عينه بالدمع، ويقف على جثمانه الطاهر ويقول: صدق رسول الله حين قال:« يرحم الله أبا ذر.. يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده»، نعم فهو اليوم يموت وحيداً بعد أن سار بعد مقالة رسول الله هذه أكثر من عشرين عاماً، وحيداً على طريق لم يتألق فوقه سواه، ولسوف يبعث وحيداً ،لأن زحام فضائله لن يترك بجانبه مكاناً لأحد سواه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى