جريمة إصدار شيك بدون رصيد وعلاقتها بالمعاملات التجارية

> «الأيام» جلال عمر البطيلي:

> هناك من يعتقد خطأ بأن وجود المعاملات التجارية والمالية والحسابات يعفي من وجود جريمة إصدار شيك بدون رصيد. وأن الشيك في هذه الحالة يتحول إلى مديونية تحكمها القوانين المدنية والتجارية فقط. وهذا اتجاه خاطئ حيث إن الحكمة من مشروعية تجريم إصدار شيك بدون رصيد هي حماية المعاملات التجارية باعتبار أن الشيك يحل محل العملات النقدية ليؤدي وظيفته في تسهيل المعاملات التجارية بين المتعاملين. والمعاملات التجارية والمالية هي أساس تجريم الشيك بدون رصيد. لذلك فقد أحاطها المشرع بالضمانات الكافية لقبول التعامل بها ورتب على مخالفة ذلك أو الإخلال به تجريم ذلك الفعل ووجوب اخضاع صاحبه للعقاب والحبس والمساءلة الجنائية مع عدم الإخلال بالحقوق المدنية والتعويضات المالية والغرامات. وبالتالي فإن وجود المعاملات التجارية والمالية لا يعفي من وجود جريمة شيك بدون رصيد.

وقد كان رأي المشرع اليمني في ذلك واضحاً وصريحاً من خلال نص المادة (211) عقوبات. حيث جرم إصدار شيك بدون رصيد بصفة عامة وفي جميع الأحوال وتحت أي أسباب أو ظروف ودون أي استثناء، ولم يستثن المشرع من ذلك المعاملات التجارية أو الحسابات أو غيرها كما يذهب إليه البعض.

والأصل أن يتم الوفاء بالالتزامات المالية وذلك عن طريق دفع النقود باعتبارها أداة التعامل. ولما لم تستطع النقود مواكبة التطور وتزايد حركة المعاملات كان لابد من البحث عن وسيلة أخرى تحل محل هذه النقود وتكون أكثر قدرة على ملاحقة تطور حركة المعاملات وقد كانت الوسيلة الأفضل لذلك هي الشيك.

وهكذا احتل الشيك مكانة هامة في المعاملات التجارية والمالية لما يضعه المتعاملون من ثقة واطمئنان فيه. ومن أجل ضمان قيام الشيك بوظيفته هذه كان لابد من احاطته بالضمانات الكافية. ولأهمية هذا الموضوع سنحاول مناقشته في مباحث ثلاثة على النحو الآتي:

المبحث الأول: وفيه ثلاثة أقسام:

ماهية الشيك ومدلوله في كل من القانون التجاري والقانون الجنائي

القسم الأول: ماهية الشيك ومدلوله في القانون التجاري:

الشيك من مدلول تجاري هو أداة دفع ووفاء تغني عن استعمال النقود وتستحق الأداء دائماً عند الاطلاع، وهي ليست أداة ضمان يمكن المطالبة بقيمتها في غير التاريخ الذي أعطيت فيه.

ومنه يمكن القول إن الشيك وفقاً للمدلول التجاري هو أمر مكتوب يصدره الساحب إلى المسحوب عليه بأن يدفع بمقتضاه مبلغاً محدداً من النقود أودعها الساحب لديه.

ومن التعريف أعلاه نستنتج أنه وحتى يكون الشيك صحيحاً وقانونياً يجب أن تتوفر فيه شروط موضوعية وأخرى شكلية نتناولها في الآتي:

أولاً: الشروط الموضوعية:

وهي تلك الشروط التي تمثل العلاقة ماب ين الساحب والمستفيد من جهة والساحب والمسحوب عليه من جهة أخرى، وهي تلك التي تتعلق بالأهلية القانونية والمحل والسبب، وما يقابلها من وجود مقابل الوفاء.

ثانياً: الشروط الشكلية:

وهي تلك البيانات التي لابد من توافرها لكي يكون الصك شيكاً، متل تحرير الشيك وكتابته في محرر- ويستوي أن يكون محرراً على نموذج خاص مثل الذي توزعه البنوك على عملائها، أو على ورقة عادية- ولا عبرة بأن يكون مكتوباً بخط الساحب أو بخط غيره أو على الآلة الكاتبة، ولا عبرة أيضاً باللغة. ويكفي لذلك أن يكون المحرر كافياً بذاته لتحديد ما يحتويه من حقوق للمستفيد دون تعليق ذلك على أمر خارج عن مضمونه، وأن يكون موقعاً عليه من الساحب، كما يجب أن يشتمل الشيك على بعض البيانات الهامة كالأمر بدفع- ويمكن أن يكون الأمر لشخص معين أو لحامله- كما يجب أن يشتمل على مبلغ محدد من النقود الواجب الدفع. فإذا لم يحدد المبلغ أو انصب على غير النقود فإن الشيك يفقد صفته كشيك، أضف إلى ذلك تاريخ السحب وتأتي أهمية هذا البيان في تحديد الوقت الذي يجب فيه مقابل الوفاء وتحديد المسؤولية الجنائية، كما يجب أن يشتمل الشيك على اسم المسحوب عليه، ويستوي أن يكون شخصاً معنوياً كالبنك أو شخصياً طبيعياً يودع له الساحب أمواله، إضافة إلى ذلك اسم المستفيد وهو من صدر الشيك لصالحه- ويستوي أن يكون معيناً أو لأمرة أو لحامله، وكذلك توقيع الساحب وهو من أهم البيانات الواجب توافرها في الشيك.

هذا هو معنى الشيك من المدلول التجاري، الذي يختلف كثيراً عن معنى الشيك في المدلول الجنائي وذلك ما سنوضحه في القسم الثاني أدناه.

القسم الثاني: ماهية الشيك ومدلوله في القانون الجنائي:

أوضحنا في القسم الأول من هذا المبحث معنى الشيك من المدلول التجاري، ويبقى أمامنا معنى الشيك من المدلول الجنائي واختلافه عن الشيك التجاري ومايترتب على ذلك.

ثبت تشريعاً اختلاف مدلول الشيك في القانون الجنائي عنه من مدلول الشيك في القانوني التجاري وذلك لما بسطه المشرع الجنائي من حماية كاملة للشيك المستوفي بياناته وفقاً للقانون التجاري وغير المستوفي لهذه البيانات متى ما توافرت مقومات الشيك. والحكمة من ذلك هي حماية التعامل بالشيكات وحماية الثقة المترتب عليها تسهيل التعامل والتداول بهذه الشيكات كبديل للنقود. حيث قد تبين أن الأفراد كثيراً ما يخدعون بمظهر الشيك برغم بطلانه من المدلول التجاري. وإن هذا البطلان لا يحول دون التعامل به.

وفي المقابل من ذلك كان من غير السديد أن تهدر حقوق هؤلاء الأفراد لجهلهم بشروط الشيك من المدلول التجاري، التي تستغل من قبل الطرف الآخر فكان لابد أن يقابل ذلك حماية لحقوق الأفراد ومن هنا جاء المدلول الجنائي للشيك وتجريم إصداره بدون رصيد وإن لم تتوافر فيه شروط الشيك. ومن هنا جاء اختلاف معنى الشيك من المدلول الجنائي عنه من المدلول التجاري.

ومنه نستطيع تعريف الشيك وفقاً للمدلول الجنائي بأنه هو المحرر الذي يستوفي من الشروط الشكلية للشيك ما يحفظ له مظهره كأداة وفاء.

وعليه فإن الشيك من مدلول جنائي لا يتقيد بالشروط الموضوعية والشكلية التي يتقيد بها الشيك من المدلول التجاري. إلا أنه هناك بيانات تؤثر على مظهر الشيك من المدلول الجنائي لعل أهمها:

1- ألا يكون الشيك محرراً على نموذج مطبوع.

2- عدم ذكر مكان المسحوب عليه - أي فرعه- لطالما ذكر كشخصية اعتبارية وله فروع - إذ إن البنك دون فروعه هو الذي يتمتع بالشخصية الاعتبارية.

3- عدم ذكر تاريخ الشيك- إلا أن ذلك يعد تفويضاً من الساحب للمستفيد بتسجيل التاريخ.

4- التوقيع على بياض كذلك لا يؤثر على صحة الشيك. إذ إن ذلك يعتبر أن مصدره قد فوض المستفيد في وضع المبلغ قبل تقديمه إلى المسحوب عليه.

5- اسم المستفيد لأن ذلك أيضاً يعد من قبيل التفويض من الساحب للمستفيد في تحديد الاسم والعبرة في ذلك هي وقت تسليم الشيك.

6- كذلك تخلف بعض الشروط الموضوعية فإنه لا يؤثر في الشيك وبالتالي لا يمنع من قيام الجريمة. ومنه فإن جريمة إعطاء شيك بدون رصيد تتحقق ولو كان سبب إصدار الشيك غير مشروع.

وفي المقابل من ذلك فإن هناك بيانات يؤثر غيابها على مظهر الشيك ومنها:

1- إخلاء المحرر من أمر الدفع وتعليقه على شرط أو أجل. فإن الشيك هنا يتحول إلى أداة ائتمان ووفاء.

2- قيمة الشيك عند تقديمه لدى المسحوب عليه.. والعبرة في وقت السحب.

3- حمله لأكثر من تاريخ.

القسم الثالث: أسباب اختلاف معنى الشيك في القانون الجنائي عنه في القانون التجاري:

- إن اختلاف معنى الشيك في القانون الجنائي عنه في القانون التجاري يرجع إلى عدة أسباب أهمها:

أولاً: ذاتية القانون الجنائي الذي يميزه عن غيره من فروع القانون الأخرى. ولهذا فإن الشيك في القانون الجنائي يأخذ معنى أوسع من القانون التجاري. حيث يتفق مع الأهداف التي يعمل على تحقيقها والمتمثلة في إضفاء الحماية الجنائية على الشيك التي تعني حماية ثقة الناس في هذا المحرر وبالتالي التعامل به.

ثانياً: ومن ضمن أسباب اختلاف معنى الشيك في القانون الجنائي عنه في القانون التجاري هي خطورة توحيد مدلول الشيك بين القانونين. حيث سيؤدي ذلك إلى استغلال (الساحب) للشيك واستخدامه كوسيلة للخداع والاستيلاء على أموال الناس وذلك عن طريق إصدار شيكات لا تتوافر فيها الشروط التي يتطلبها القانون التجاري وبالتالي الإفلات من العقاب والمساءلة.

ولهذه الأسباب كان لابد من إضفاء الحماية على المحرر لمجرد أن يتوافر فيه مظهر الشيك وإن كان باطلاً وغير مستوفي الشروط وفقاً للقانون التجاري، وتلك الحماية هي التي أضفاها المدلول الجنائي للشيك بتجريم إصدار شيك بدون رصيد وحماية الشيك في جميع حالاته وإن لم تتوافر شروطه.

المبحث الثاني: وفيه قسمان: جريمة إصدار شيك بدون رصيد وعلاقتها بالمعاملات التجارية:

القسم الأول: علاقة المعاملات التجارية بجريمة إصدار الشيكات بدون رصيد:

إن العلاقة بين المعاملات التجارية وجريمة إصدار شيكات بدون رصيد هي علاقة تلازمية ومرتبطة بحيث يكون كل منهما سبباً للآخر. وإن الذهاب إلى خلاف ذلك هو عبث بالتشريع. حيث إن أهم أسباب تجريم إصدار شيك بدون رصيد هي حماية المعاملات التجارية التي يشكل هذا الشيك الضمانة الأكيدة لنجاح استمرارها والقائمة على الثقة. وبالتالي من غير الصحيح فصل المعاملات المالية والتجارية عن جريمة الشيك بدون رصيد كما يذهب إليه البعض من القضاة وممثلي النيابة العامة خلافاً للقانون. وإن محاولة تغييب أو إهمال جرائم الشيك بدون رصيد تحت مبرر وجود قضية تجارية وحسابات هو اتجاه خاطئ وفيه تجن على القانون أذ إن الأصل في تجريم إصدار شيك بدون رصيد هي حماية المعاملات المالية والتجارية وإن الإخلال بها من خلال تحرير شيكات بدون رصيد هو الفعل المجرم المناط بالحماية وفقاً لقانون العقوبات النافذ. ولهذا فإن المشرع اليمني قد جرم إصدار شيك بدون رصيد متناولاً ذلك في نص المادة (311) من القانون رقم 12 لعام 1994م بشأن العقوبات. وإن المشرع حين جرم ذلك الفعل (إصدار شيك بدون رصيد) فإنه لم يستثن من ذلك المعاملات التجارية أو المالية أو الحسابات وإنما جرم تحرير الشيكات بدون رصيد في جميع صورها وأسبابها وحالاتها. وإن قانون العقوبات هو قانون خاص يتقيد به العام إن وجد كالقانون التجاري مثالاً الذي هو الآخر أيضاً لم يعف المحرر للشيك بدون رصيد من العقاب مما يؤكد تجريم هذا الفعل في جميع القوانين وبالتالي يكون من الخطأ أن يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن وجود معاملات مالية أو حسابات يعفي من وجود جريمة شيك بدون رصيد متى ما توافرت أركان هذه الجريمة وشروطها كما سنبنيه في القسم الثاني من هذا المبحث أدناه:

القسم الثاني: أركان وشروط جريمة الشيك بدون رصيد:

إن جريمة إصدار شيك بدون رصيد هي من الجرائم المادية العمدية التي تتطلب لقيامها بعض الشروط والأركان المادية والمعنوية المبينة أدناه:

أولاً: الركن المادي:

يتكون الركن المادي في جرائم الشيك في إعطاء شيك مع عدم وجود مقابل وفاء له. ومنه فإن الركن المادي لهذه الجريمة يتكون من عنصرين هما:

أ- فعل العطاء: وهو خروج الشيك من حوزة محرره وتسليمه إلى المستفيد ويكون ذلك التسليم باليد أو عن طريق إرساله بالبريد.. إلا إن ذلك لا يكفي لتحقيق فعل العطاء بل يجب أن يقترن به إرادة التخلي الكاملة والنهائية للمستفيد.

ب- عدم وجود مقابل وفاء: لا يكفي لقيام الركن المادي في جريمة الشيك تحقق فعل العطاء وإنما يجب أن يقترن ذلك بعدم وجود مقابل الوفاء وقت استحقاق صرف الشيك او عدم كفاية الوفاء. ومنه فإنه يدخل في عدم وجود مقابل الوفاء ثلاث حالات هي: إما عدم وجود رصيد إطلاقاً. أو وجود رصيد غير كاف، أو عدم قابلية الرصيد للسحب. وفي هذه الحالة الأخيرة يجب توافر علم الساحب وقت إعطاء الشيك، أما بعد تحرير الشيك فلا يعتد بهذا السبب. وتقع الجريمة في الحالات الثلاث: عدم وجود رصيد، أو عدم كفايته، أو عدم قابليته للسحب، وهو الاتجاه الذي أخذ به المشرع اليمني.

ثانياً: الركن المعنوي:

جريمة الشك بدون رصيد هي من الجرائم العمدية التي تتطلب توافر القصد الجنائي، وقد عبر المشرع اليمني عن هذا الركن (وهو يعلم)، ويجب أن تتجه إرادة الجاني إلى الفعل الذي يكون الركن المادي للجريمة. وأن يحيط علمه بعناصرها- أي أن يعلم وقت إصدار الشيك بان ليس له رصيد مقابل الوفاء- ويدخل في ذلك عدم كفاية المقابل، أو عدم قابليته للسحب، وايضاً سحب الرصيد بعد إعطاء الشيك، أو أمر الساحب إلى المسحوب عليه بعدم دفع قيمة الشيك. ولا عبرة بالأسباب التي دفعت إلى إصدار هذا الشيك.

ومما تقدم يتبين أن جريمة إصدار شيك بدون رصيد هي جريمة قائمة ومستقلة بذاتها متى ما توافرت أركانها وشروطها المادية والمعنوية والمتمثلة في تحرير الشيك مع العلم بعدم وجود رصيد كاف له وبصرف النظر عن أسباب ودوافع تحرير هذا الشيك وبصرف النظر أن يكون الشيك متعلقاً بمعاملات مالية أو حسابات أو صادراً بسببها، فإن كل ذلك لا يعفي من جريمة إصدار شيك بدون رصيد وذلك وفقاً للتشريعات المحلية والدولية وإن الذهاب خلافاً لذلك هو ضرب من خيال وخرق لقواعد الاختصاص وضياع للحقوق ومحاولة لإضعاف دور القانون في حماية المعاملات المالية والتجارية ووقف تنميتها.

وفي الأخير، وفي المقابل من وجود بعض الخروج والتطبيق غير الصحيح للقانون في التعامل مع جرائم إصدار شيك بدون رصيد مما تناولناه في موضوعنا هذا. كان لزاماً عليناً أيضاً الإشارة إلى المكانة والدور الذي لعبه كل من الأخوة الاساتذة رئيس نيابة استئناف، ومدير أمن المحافظة، اللذين مثلا نموذجاً يقتدى به في تطبيق القانون والعمل بصحيح أحكامه مما عكس المكانة العلمية والقانونية المشهود لهما بها. كما أجده من الواجب وأنا أختتم مقالي هذا التقدم بالشكر والعرفان لشخص ومقام كل من وكيل نيابة صيرة الفاضل وعضوها المخضرم فضل محمد حسن اللذين كانا هما الآخران على قدر من الحرص والدقة في التعامل مع القانون وتطبيقاته رغم شحة الإمكانية، وإنني أعول في الجميع- قضاة ووكلاء وأعضاء النيابة العامة ورجال الأمن - الإسهام في التطبيق الصحيح للقانون، وحفظ حقوق المواطن، والتنبه لموضوع كهذا لما له من أهمية تشريعية واقتصادية. كل ذلك لا لشيء إلا لأننا جميعاً نحرص ونطمح معاً إلى خلق دولة القانون وسيادته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى