أزمة العلوم الإنسانية في الجامعات العربية

> «الأيام» د. مسعود عمشوش:

> يحظى البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية باهتمام كبير في الجامعات ومراكز البحث الغربية، ولا يُنظر له هناك بصفته ترفا أو تخصصا ثانويا مقارنة بالبحث في مجال العلوم البحتة والتطبيقية وذلك على الرغم من أن ظاهرة العولمة و مبادئ اقتصاد السوق تهيمن بشكل كبير في الغرب. فتلك الجامعات والمراكز الغربية تربط بين البحث العلمي النظري التجريدي (أو الأولي) - الذي تعد العلوم الإنسانية والاجتماعية من أهم مرتكزاته- وبين البحث العلمي التطبيقي الموجه إلى التكنولوجيا والهندسة والطب.

أما في الجامعات العربية - ومنها الجامعات اليمنية- فالتطورات والتغيرات الكبيرة التي تعصف بمجتمعاتنا العربية، والتي نحاول أن نصفها ونفسرها بطرق مختلفة، تلقي بظلالها مباشرة على الدراسات الإنسانية بصفتها مجالا للدراسة الجامعية وحقلا للبحث العلمي.

ومن المؤكد أن النقاشات التي تدور حول الدراسات الإنسانية تجد ما يفسرها في التطور العام الذي أفرزته ظاهرة العولمة واقتصاد السوق وأثرهما في المؤسسات التعليمية وكذلك في طبيعة التطور الداخلي الخاص بتلك العلوم نفسها والقائمين عليها. فهناك من يتحدث اليوم عن وجود أزمة فعلية داخل العلوم الإنسانية. وهناك من بات يضع تساؤلا كبيرا حول جدوى الاستمرار في وجود عدد من التخصصات في مجال العلوم الإنسانية داخل الجامعة على الأقل في شكلها التقليدي الذي لم يعد مؤهلا لضمان تكيف المنتمين إليه مع متطلبات العصر. ومن اللافت حقا أن القائمين على (مؤتمر العلوم في اليمن) مصممون تماما على استبعاد المحاور التي تدخل في إطار العلوم الإنسانية من أعمال هذا المؤتمر الذي ينظم سنويا!

وفي العدد الأربعين من مجلة (نزوى) العمانية نشر الناقد والأكاديمي سعيد توفيق دراسة عن (محنة الفلسفة وأزمة العلوم الإنسانية في الجامعات الخليجية) تحدث فيها عن الحالة الراهنة للعلوم الإنسانية في جامعات الخليج وذلك بهدف الكشف عن أعراض الخلل فيها وأسبابه والوصول إلى وضع رؤية استراتيجية تتيح لهذه العلوم تجاوز أزمتها. ويؤكد د. سعيد توفيق أن «أزمة العلوم الإنسانية ليست مقصورة على جامعات الخليج، بل إنها تتمثل أيضا في غيرها من الجامعات العربية وجامعات البلدان النامية عموما. ولاشك أيضا أن أزمة العلوم الإنسانية في هذه الجامعات على اختلافها ليست مستقلة عن المشكلات المزمنة للتعليم العالي فيها».

ويلاحظ كذلك أن السمة الغالبة في الجامعات الخليجية هي تدني مكانة العلوم الإنسانية مقارنة بالعلوم التطبيقية والطبيعية والرياضية التي تؤمن المهارات والمعارف التقنية.

ولهذا السبب يرى أن الكليات المتخصصة في هذه العلوم التطبيقية كالطب والعلوم والهندسة وتقنية المعلومات تحظى دائما بإقبال كبير، وتولي لها الجامعة الاهتمام الأكبر، وتقيد شروط وضوابط الالتحاق بها.

وهذا ما نجده أيضا في جامعاتنا اليمنية حيث يلاحظ أن ذوي المعدلات العليا فقط هم الذين يُقبلون في الكليات الطب والهندسة التي كانت يوما تسمى في الجامعات المصرية بـ«كليات القمة».

ويرى د. سعيد توفيق أن نظرة الخليجيين للعلوم الإنسانية تنبع في الحقيقة من فهم قاصر للعلم ورسالته وأهدافه. ويؤكد أن حصر قيمة العلم في إنجازاته التطبيقية، وتقييم العلوم انطلاقا من نموذج يضع العلم العملي والتطبيقي في مرتبة أعلى والعلم النظري في مرتبة أدنى يعكسان نظرة خاطئة تماما للعلم. «لأنه لا انفصال في العلم بين ما هو نظري مجرد وما هو عملي تطبيقي، سواء أكنا نعني بالعلم هنا العلوم الطبيعية والرياضية، أو العلوم الإنسانية».

وفيما يخصنا نعتقد أن أزمة العلوم الإنسانية التي تتجاوز الجامعات العربية وترتبط بظاهرة العولمة وربط التعليم العالي باقتصاد السوق تعكس أيضا فهما ضيقا وخاطئا لربط الجامعة بخدمة المجتمع. فرؤية المجتمع والحكومات والشركات للجامعة تنتقص اليوم كثيرا من دور العلوم الإنسانية في تطوير المجتمع، بل قد تنفيه أو تجعله دورا هامشيا مقارنة بدور العلوم الطبيعية والتكنولوجية الحديثة التي تلتصق بشكل ملموس بالمتطلبات المباشرة لاقتصاد السوق.

ولهذا يمكننا أن نتساءل مع سعيد توفيق الذي يكتب «بأي حق يمكن تقييم مكانة هذه العلوم على أساس من توجهاتها التطبيقية في خدمة المجتمع؟ إن النظر إلى رسالة العلم باعتبارها تهدف إلى خدمة المجتمع هي نظرة صحيحة ما في ذلك شك. ولكن السؤال الأهم هنا هو: ما معنى خدمة المجتمع؟ وعلى أي نحو تكون خدمة المجتمع؟ إن دور العلوم الطبيعية والرياضية في خدمة المجتمع دور معروف؛ لأن اكتشافات هذه العلوم يمكن أن تتحول إلى قوة تكنولوجية تشبع وتخدم حاجات المجتمع المادية، وهي اكتشافات تحدث على المستوى النظري أولا كما رأينا».

ويرى سعيد توفيق أن النظرة السائدة في الجامعات الخليجية التي تربط بين دور العلوم الإنسانية وإشباع متطلبات سوق العمل، هي نظرة تؤدي إلى تراجع دور العلوم الإنسانية، وعدم وجود أية إمكانية لتطورها. كما أن الأقسام الخاصة بالعلوم الإنسانية في الجامعة تصبح ذات صبغة مؤقتة إذ إنها لا تهدف إلا لتخريج عدد محدود جدا من الاختصاصيين، ولن تعود هناك حاجة لها، «لأنه ليست هناك وظائف شاغرة في المجتمع بمسميات فيلسوف، ومؤرخ، وأديب، وفنان... إلخ. ومن ثم، فمتى تشبّع سوق العمل من خريجي هذه العلوم، لم يعد لها مبرر ووجب إغلاق الأقسام العلمية المعنية بدراستها!».

وهذا ما يحدث فعلا لبعض أقسام العلوم الإنسانية في الجامعات اليمنية التي باتت في حالة احتضار.

وقد يؤدي هذا الأمر إلى إغلاق كليات الآداب أو تحويلها إلى كليات لغات وصحافة وإعلام.

ولكي نكون منصفين في الطرح نضيف أن د. سعيد توفيق يورد سببا آخر لتدهور واقع العلوم الإنسانية في الجامعات: وهو أزمة المنهج. فهو يقول إن «المنهج السائد في إجراء البحوث والدراسات الإنسانية بجامعات الخليج يمثل شكلا من أشكال أزمة العلوم الإنسانية فيها ... وللأسف، فإن الجامعات الخليجية - ربما بصورة أكثر كثافة من غيرها من الجامعات العربية - لا زالت تتشبث بنموذج المنهج التقليدي في العلوم الإنسانية ؛ وقد كان من شأن هذا أن أوجد جيلا من الباحثين والدارسين يعولون على القياس والإحصاء، ويفهمون البحث الميداني على أنه تصميم لاستمارات أو استبيانات، وتفريغ لنتائج هذه الاستبيانات من خلال برامج الحاسوب، في حين أن هذه النتائج يمكن أن تأتي متضاربة في كل مرة يعاد فيها البحث الميداني، فضلا عن أن الاستمارات التي يصممونها غالبا ما تنطوي على فروض هشة ضعيفة ومتناقضة. ومرد ذلك الافتقار إلى فهم معنى الموضوع أو الظاهرة التي يبحثونها، والفروض التي يبدؤون منها دون تمحيص أو خبرة واعية».

ومن أبرز المقترحات التي يقدمها د. سعيد توفيق في خاتمة دراسته والتي يمكن أن تساعد على تجاوز أزمة العلوم الإنسانية: تفعيل مكانة العلوم الإنسانية جميعها والفصل بين مكانة هذه العلوم والحاجة المعرفية إليها من جهة، وبين مدى تلبية هذه العلوم لمتطلبات سوق العمل بشكل مباشر من جهة أخرى.

ويؤكد كذلك ضرورة الحد من هيمنة المناهج التقليدية المتبعة في أقسام العلوم الإنسانية في الجامعات يتناسب مع متطلبات العصر.

وبدورنا نرى أنه ينبغي التأكيد على أن للعلوم الإنسانية دورا فعالا في خدمة المجتمع. ولا يمكننا أن نحصر مفهوم خدمة المجتمع في تقديم الخدمات المادية له. وإذا كانت العلوم الإنسانية لا يكمن أن تلبي حاجات مادية ملموسة للناس فهي تشارك في رفد المجتمع بكوادر جيدة في مجالات القضاء والإدارة. ويظل دورها الرئيس معرفيا وفكريا وثقافيا وتنويريا.

ومن المعلوم أن التنمية الثقافية للمجتمع لا تقل أهمية عن المكونات الأخرى للتنمية.

ويبين مسار مختلف الحضارات الإنسانية أنه لم يحدث أن تطورا ماديا وقع في مجتمع ما ولم يواكبه تطور معرفي وثقافي. وأكبر دليل على ذلك ما يحدث اليوم في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى