لا أستطيع أن أقاعد العقل

> د. سمير عبدالرحمن شميري:

>
د. سمير عبدالرحمن شميري
د. سمير عبدالرحمن شميري
عندما زار اليمن الفنان المصري عبدالحليم حافظ في منتصف ستينات القرن العشرين شاهد الولادة العسيرة للثورة وحركة انبلاج الحرية، فتكسر الدمع في قلبه وأصيب بتمزقات روحية حين رأى الجهل متغلغلاً في نسيج المجتمع اليمني، فسيطر على ذهنه سؤال عريض: (كيف نفتح عيونهم على الدنيا المتحركة من حولهم؟). فلا يمكن فتح عيون الشعب إلا بالعلم والثقافة والتنوير والحرية والفن وتنمية الثروات وخلق البيئة المناسبة لنماء الرأسمال البشري.

فسياسة الاستغناء عن الرأسمال البشري المؤهل والمتطور دون دراسة متبصرة لا يصب في خانة الصلاح، بل في خانة الطلاح.. فكم يحتاج اليمن من السنوات لتأهيل أستاذ جامعي؟ وكم يصرف من الأموال لخلق كادرات علمية متنورة؟

فالجامعات اليمنية عددها 16 جامعة يقدر عدد طلابها بـ 214000 طالب وطالبة، تصبح أحجاراً وهياكل وكتلاً إسمنتية صماء بدون أعضاء هيئة التدريس، الذين يقدر عددهم بـ 4469 عضواً.

إن إحالة ما يقارب 550 أستاذاً جامعياً للتقاعد من جامعة صنعاء (الرقم غير دقيق)، و93 أستاذاً جامعياً من جامعة عدن، يعد ضرباً من ضروب إهدار الثروة وتشتيت طاقة الرأسمال البشري. والمضحك والمبكي أن نزراً من هؤلاء المحالين للتقاعد لازالوا يدرسون في الخارج على حساب الدولة، ورهط من هؤلاء عادوا للتو من الخارج بعد حصولهم على الشهادات الأكاديمية الرفيعة ليتقاعدوا دون أن يبذلوا ذرة عطاء فذهبت ثروتهم العلمية والمعرفية مدارج الرياح.

يقول العالم الأمريكي جيمس واطسن (على الإنسان العامل ألا يتقاعد، فالعقل في حاجة ماسة إلى ممارسة، وإلا سيضمر).

وفي نوبة من نوبات الكمد النفسي يصرخ هؤلاء كما صرخ بطل متقاعد عن العمل في مسرحية من مسرحيات آرثر ميلر (1915-2005م): «إنكم تأكلون الثمرة.. ثم ترمون بالقشرة».

فهل نتبع سياسة النعامة ونطمر رؤوسنا في الرمال، أم نضع الشمع في آذاننا كي لا نسمع صوت الحق وصرخات الضمير؟.. فلا بد أن نتقن فن الإصغاء ونقرأ مفردات الواقع بعقول مرنة، ولا بد أن نبحث عن صيغة متزنة لا تحتمل اللبس.

إننا نشعر بغصة ألم في حلوقنا، عندما نبصر موجات التقاعد تتجه صوب المرأة لتقذف بها خارج أسوار الجامعة كما حدث لـ: سعاد يافعي، أسمهان العلس، نفيسة محمد سعيد، أسماء ريمي، أنيسة عبود، صباح أحمد شرف، فوزية سالم، نوري فارع، خالدة أنور، فريال عقلان.. وغيرهن.. فهل لدينا كم هائل من المتعلمات الأكاديميات حتى نستغني عن خدمات ثلة لامعة من المتنورات؟! إننا سنخسر كثيراً لو تخلينا عن المرأة المتمدرسة والمؤهلة في الجامعات اليمنية، فعدم الاكتراث بالأكاديميات أمر جليل الخطر قد يؤدي إلى ليل مظلم تجف فيه سنبلة العطاء.

وحتى لا ننخرط في سجال عقيم ونندفع إلى أرض مجهولة ونطلق تعميمات وتصورات تظل معلقة على شجرة الأماني، وبعيدة عن متناول اليد وعرضة للجرح والتعديل، لا بد من الأخذ بأيسر الحلول ألا وهو: تطبيق النظام والقانون ومعاملة الأكاديميين بالقسطاس حسب ما هو متعارف عليه في جامعات العالم، فلا نريد أكثر مما هو موجود في الدستور المادة (27)، وقانون المعاشات رقم (5) لعام 1991م، وقانون الجامعات اليمنية لعام 1995م وتعديلاته. فهناك حقائق تتلألأ كالجواهر من الصعب طمسها بأفكار مهوشة ومضطربة.فهل يستطيع الرئيس ببسالته المعهودة أن يقول: لا أستطيع أن أقاعد العقل، على غرار الموقف النابه للرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو، الذي قاوم فكرة إدخال المفكر جان بول سارتر السجن، بعد صدامه مع مؤسسات الإكراه، حيث قال:«إني لا أستطيع أن أدخل الثقافة السجن».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى