تجربة التوالي على الحكم في صدر الإسلام

> «الأيام» امذيب صالح احمد:

> إذا كان التوالي على الحكم لولاة الأمور هو البقاء في السلطة مدداً غير طويلة وتناوبهم وتتابعهم بانتظام معين دون استدامة بالتصلب والتسلط في الحكم نظرياً أو عملياً يعتبر وجهاً من وجوه الديمقراطية المعاصرة، فإن التطبيق العملي للخلافة والحكم في الدول الإسلامية وخاصة في عقودها الأولى قد اتسم بالتتالي والتناوب في التوالي على الحكم بمدد قصيرة من قبل الولاة لأسباب مختلفة، غير أن أحداً منهم لم يدع حقاً في البقاء على كرسي الحكم أو يتحجج بأعذار أخرى، وقد تمكنت في ذلك عدة عوامل طبيعية واجتماعية وهي: 1- كان الحاكم يطلب دائماً وعلناً من الشعب عن حسن نية عدم طاعته وعزله حينما يرون أن الحاكم قد انحرف عن دستور الأمة من الكتاب والسنة. 2- كان أهل الشورى من ذوي الحل والعقد يختارون من بينهم للولاية والحكم الأكفأ والأجدر والأخبر الذي يكون دائماً من كبار السن الذين لن يطول بقاؤهم في السلطة بسبب اعتلال الصحة أو ضعف القدرة أو قضاء الله وقدره. 3- إن البطانة التي تحيط بالحاكم كانت ذات مستوى رفيع من العلم والأخلاق الإسلامية والثقافة بحقوق الأمة والمجتمع ومصالحها بحيث تحصن الحاكم وتحميه من الانحرافات التي تحوم حول مغريات السلطة. 4- كان الحاكم المسلم لا يستعمل حراساً للحفاظ على أمنه الشخصي في الحياة اليومية حتى لا ينعزل عن الشعب وحتى لا يجعل تكاليف حراسته على حساب المصلحة العامة من بيت مال المسلمين، حتى أن الخلفاء العظام الأوائل عمر وعثمان وعلي استشهدوا غيلة وغدراً مما جعل معاوية بن أبي سفيان يدخل نظام الحراسة الشخصية لأمن الحاكم. 5- امتنع حكام الإسلام الراشدين عن الاشتغال بالتجارة خلال توليهم الإمارة وعاشوا على مرتباتهم الحكومية خلال مدة الحكم حتى أن معظمهم ماتوا فقراء بعد أن كان بعضهم غنياً قبل الإسلام وقبل الولاية، فالتقوى ومكارم الأخلاق التي غرستها قيم الدستور الإسلامي ومبادئه شريعة حقوق الإنسان وحرياته وواجبات الحاكم والمحكوم جعلتهم يزهدون شخصياً في طلب الدنيا على حساب شعوبهم، لأنها مفسدة للحكام الذين لا يرغبون في ترك كراسي الحكم.

وقد تفاوتت مدد البقاء في الحكم لرؤساء الدولة الإسلامية خلال العصر الراشد وخلال القرن الأول من دولة الإسلام، فقد كانت بمعدل يقل عن سبع سنين للحاكم ما بين عهد الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم- وعهد الإمام الحسن بن علي. أما خلال القرن الهجري الأول أي طوال مدة مئة عام فقد كانت بمعدل يتراوح بين سبع وثمان سنوات للحاكم الواحد ابتداء بالرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم- وانتهاء بالخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز- كما ورد في إحصائيات ابن حزم الأندلسي في كتاب (نقط العروس في تواريخ الخلفاء) ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي التي حققها د. إحسان عباس.

ولتوضيح قاعدة التوالي على الحكم كما حدثت عملياً ومورست في الدولة الإسلامية نعرض أدناه جدولاً يبين أسماء الخلفاء ومدد حكمهم وطريقة انتهاء توليهم السلطة خلال القرن الهجري الأول منذ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتأسيس وإدارة أول دولة للإسلام في العام الأول للهجرة وحتى وفاته في العام العاشر للهجرة عن (63) عاماً استناداً على ما شرحه ابن حزم الذي يفرق في توصيفه للحكام بين خليفة ووالٍ، فصفة (الخليفة) هي للحاكم الملتزم كاملاً بالدستور (الكتاب والسنة)، أما صفة الوالي فهي للحاكم الذي لم يستطع أو لم يلتزم كاملاً بالدستور الإسلامي.

ونستطيع أن نستخلص من تجربة الحكم الإسلامي قاعدتين في التوالي على الحكم:

أولاهما: إن الإسلام نظريا لم يقيد مدة بقاء الحاكم أو المسؤول في الدولة في ولايته إلا بالأمانة والصلاح والكفاءة والقدرة.

والثانية: إن المعارضة في الإسلام قد جعلت بالتجربة العملية مدة ولاية الحاكم في معدلها حوالي ثمانية أعوام فقط. وأسباب ذلك الاختلاف بين النظرية والتطبيق في مسألة التوالي على الحكم في الإسلام هي أن حكام المسلمين الذين كانوا يتمتعون بسلطات واسعة لم يكونوا على مستوى واحد من المواصفات المطلوبة في رئاسة الدولة والرئاسات الأخرى، فمنهم من كان أميناً وعادلا، ومنهم من كان دنيوياً أو دبلوماسياً محنكاً، ومنهم من كان ظالماً ومستبداً غشوماً، ومنهم ممن كان خواراً ضعيفاً لا يملك من أمره أو سلطانه شيئاً، لأن بطانته ومراكز القوى حوله هي التي تأمر وتنهى وتنفذ في أمور الدولة وتحركها حسب أهوائها ومصالحها، وعليه فلا بد من تنظيم سلطة الحكم في الوقت الحاضر بما يضمن احترام الدستور حسب مقتضيات العصر بحيث تتوزع مهام الإمام (رئيس الدولة) بين مختلف السلطات الدستورية بحكم تطور الدولة وضخامتها وتركيبات أجهزتها الكثيرة.

غير أن وحدة الأمة ووحدة جماعتها وتماسكها في النظام الديمقراطي الإسلامي تحتاج إلى ثبات واستقرار في رئاسة الدولة، وهذا الثبات الذي يتناقض مع مبدأ التعددية السياسية القائمة على التغير والتبدل يحتم أن تكون رئاسة الدولة خارج نطاق المراقبة الدائمة والمساءلة والمحاسبة، وهو الأمر الذي لا يتأتى إلا بتحديد السلطات والصلاحيات، بحيث يكون رئيس الدولة رئيساً موحداً ومنسقاً ومرسماً للسلطات الدستورية الثلاث وليس جزءاً من السلطة التنفيذية التي يوجهها الحزب الحاكم من خلال السلطة التشريعية، وهو ما يستلزم منه أن يكون محايداً حزبياً عند توليه رئاسة الدولة، وبحيث تحدد مهامه في المجالات والحالات التي لا تعطل أو تؤثر على مبدأ الفصل بين السلطات أو لا تكون مثار اختلاف بين القوى السياسية والاجتماعية للشعب، التي تتنافس على تداول السلطة ومراقبتها ومعارضتها، فمثلاً يمكن حصر سلطاته وصلاحياته في سد الفراغ الدستوري عند حدوثه وفي تنسيق تداول السلطة والتوالي على الحكم بين الأحزاب وتعميد وإصدار القوانين والقرارات التي تقرها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي تعبر عن الشخصية الاعتبارية للدولة أو تمثلها قانونياً والإشراف على اختيار وتعيين كافة القيادات العليا في مختلف أجهزة الدولة المدنية والعسكرية بواسطة اللجان التخصصية المحايدة، وغيرها من الصلاحيات والسلطات المشابهة التي تتسم بالحياد أو ليست مجال اختلاف سياسي بين الأحزاب وقوى التعدد السياسي في مجال أعمال السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، لأن أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والقضائية لا يمكن أن تتصف بالحياد حين يكون رئيسها الأعلى موصوفاً نظرياً وعملياً بالانحياز الحزبي، الذي ينعكس على سلوكياته المختلفة قولاً وفعلاً، التي تؤثر تأثيراً سلبياً على بناء أجهزة الدولة وأدائها في خدمة الحكم الديمقراطي.

إن الحكم الراشد للديمقراطية في المجتمع العربي الإسلامي لا يمكن أن يقوم إلا على مضامين وأشكال القيم والتجارب الأصيلة للحضارة الإسلامية العربية، وليس على قيم وأشكال نشأت وتطورت تاريخياً في بيئة حضارية غير إسلامية، تختلف كثيراً في موروثها الثقافي والاجتماعي بحيث لا تقبل الغرس والغرز في بيئتنا..فإن قلدناها تشوهت وامتسخت فشوهتنا ومسختنا معها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى