الخطاب التنويري (النهضوي) في فكر محمد علي لقمان (1898-1966) .. كتاب (بماذا تقدَّم الغربيون) نموذجاً

> «الأيام» سعيد علي نور:

> أولاً: مقاربة أولية .. إشارة: هذه الورقة، المقدمة إلى ندوتكم الموقرة،هي في الأساس، محاضرة ألقيتها في اتحاد الأدباء بعدن في ربيع العام 1992م ونشرت في صحيفة «14أكتوبر» بتاريخ 23 أبريل من العام نفسه. أعدت صياغتها على هيئة ورقة أخرى وأضفت إليها ما يمكن إضافته.

ربما كان من الأفضل عملياً الانخراط في صلب الموضوع (الكتاب) دون مقدمات تتعلق بسيرة الكاتب وأنشطته الإبداعية أو السياسية، التي يمكن أن تضطلع بها أوراق أخرى.

زد على ذلك أن هذه الورقة عبارة عن دراسة موضعية لكتاب بعينه (بماذا تقدم الغربيون؟) (بحث أخلاقي ودرس اجتماعي)- مطبعة الشورى بمصر، بدون تاريخ، كتبه لقمان في بداية الثلاثينات من القرن الماضي على غرار كتاب (لماذا تأخر المسلمون) لأمير البيان شكيب أرسلان.

الكتاب كتابٌ نقدي، من قبيل النقد الاجتماعي، الأخلاقي، يناقش بالفكرة والوقائع والتجارب والمشاهدات مسألة تقدم الغرب في محاولة لنقد البنية الثقافية، التعليمية، السياسية، الاجتماعية والأخلاقية للمجتمعات الشرقية (الإسلامية والعربية وعلى وجه أخص المجتمع اليمني)، كما يعبر الكتاب عن ثقافة عالية إذا ما قيست بزمن لقمان.

ثانياً: تقديم

إذا تجاوزنا كلمة أمير البيان التي تصدرت الكتاب باعتبارها تقريضاً في الكاتب وليس قراءة للكتاب (شكيب أرسلان لم يقرأ الكتاب، ولكنه بعث بكلمته من جنيف) إذا تجاوزنا ذلك إلى كلمة المؤلف، لوقفنا على المنطلق أو المرجعية التي دعته إلى الخوض في «مسألة التقدم والتأخر» وهي مسألة مثلت بحثاً في الفكر العربي من حيث علاقة الشرق بالغرب أو شمال البحر الأبيض المتوسط بجنوبه ولا نرى داعياً لإعادة القول فيها.

يقول: «محور البحث فيما سأقدم عليه هو أخلاق الأوروبيين التي مكنتهم من التسلط على الشعوب والفوز في مضمار الحياة» (ينظر مقدمة الكتاب) ويضيف: «مستنداً على ملاحظاتي الشخصية للأوروبيين الذين عشت معهم السنين الطوال (.....) ومستعيناً بما طالعته في كتبهم».

تعليقاً على ما تقدم أعتذر سلفاً عن كوني لم أتمكن من العثور على كتاب شكيب أرسلان لكي أقف عند حدود المنطلقين اللذين انطلق منهما الرجلان، ولكني أزعم أن كتاب لقمان، الذي يعتمد على الملاحظات الشخصية ومعايشة الأوروبيين أقرب ما يكون إلى كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوي، مع الفارق أن الطهطاوي كان يصف وحسب وكان لقمان يصف ويقارن.

ثالثاً: المتن

(عرض ومناقشة)

ينطلق لقمان في عناوينه التي عالجها الكتاب من فكرتين تنتظمان الكتاب:

الأولى: أن العرب كانوا يمتلكون من القيم ما يمكنهم من النهوض ولكن هذه القيم (الانضباطية) تهاوت بتهاوي الكيان العربي (سقوط بغداد + سقوط غرناطة) «ما بين الهلالين من الباحث».

الثانية: أن الأوروبيين متمسكون بقيم هي التي مكنتهم من النهوض والتقدم.

واستناداً إلى ذلك يمكننا أن نشرع في عرض مختصر، دون إخلال ولا إطالة لأهم ما انطوت عليه تلك العناوين: يتساءل لقمان، في أبرز عناوينه وأولها عن:(كيف تقدم الغربيون؟) ويعيد تفوق الغربيين وتقدمهم إلى ««العقل» وهذا التصور يحيلنا إلى فكرة «المرجعية الأوروبية» أو «العقل الآري» التي يبدو أن لقمان قد تأثر بها جراء طيلة مكوثه في أوروبا ومطالعاته هناك.

ثم يسرد لنا بقية الأسباب التي أدت إلى تقدم الغرب وتأخر المسلمين والعرب كما سيأتي:

(1) نظام المدارس: حيث يتجلى الفكر النهضوي في هذا الطرح الذي تقدم به لقمان من كونه يأتي في فترة لا توجد فيها جامعة ولا كلية ولا حتى مدرسة على الطراز الحديث، لا في اليمن ولا في الجزيرة العربية، والأمر نفسه ينطبق على دعوته إلى تعليم البنات.

(2) كما دعا إلى الاعتماد على النفس، فالغربيون - والحديث للقمان - يعتمدون على أنفسهم اعتماداً كلياً، على النقيض من التواكل الذي وصل بالشرق إلى ما هو عليه، والأمر ذاته ينطبق على دعوته إلى العمل، فالأفرنجي - على حد تعبيره - مضطر إلى الكسب ليقوم بأود نفسه على النقيض من الشرقي الذي جبل على الاتكال وطلب المساعدة.

3) ويلفت نظرنا إلى أن العرب لم يتمسكوا بالقيم النظامية القديمة التي بنت مجدهم التليد، حتى أنهم نسوها في حين تمسك الغربيون بقيمهم النظامية والانضباطية، بما في ذلك الرياضة البدنية، على اعتبار أن العقل السليم في الجسم السليم.

ويذكرنا في هذا السياق بالعزم الذي قامت به وعليه الحضارة العربية القديمة، ثم يتحدث عن الاستعداد واغتنام الفرص، مقدماً شواهد عربية قديمة وعالمية قديمة وحديثة.

(4) النظام والترتيب: حيث نجد أن لكل دولة متمدنة - والحديث للقمان - أنظمة بديعة تسير عليها وتتبع نهجها، في إشارة إلى الدستور والبرلمان ومجلسي الشورى والعموم في الدولة الإنجليزية. إن طرحاً من هذا النوع يعد طرحاً سياسياً نهضوياً عندما يصدر عن الزمان الذي فيه لقمان والمكان الذي عاش عليه.

(5) ثم يعيد إلى الأذهان، ثانية، القول إن الحضارة العربية القديمة قد توفرت على نوع من النظام والترتيب كما هي الحال في تجربة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي دوّن الدواوين ورتب الأعمال والشؤون المالية وفقاً لقواعد مرعية، وكذلك الأمر بالنسبة للدولة العباسية في عصرها الذهبي، لكن هذه التجربة انتهت بسقوط الدولة العربية وضاع ذلك التنظيم والترتيب ولم يعد يشغل أمراء الشرق وملوك آسيا وإفريقية (يقصد في العصر الحديث).

هنالك قضايا أخرى يثيرها لقمان من بينها فكرة الاتحاد وضرورة التخصص في العلوم والفنون، غير أن أبرز قضية يمكن أن نختم بها هذا العرض هي قضية «حرية الفكر» حيث يرى أنها كانت سبباً في إنقاذ أوروبا من ويلات الجهل وظلمات الرجعية، لأنها تسمح بنقد الأنظمة ومجالس الشورى، وفي ظل حرية الفكر ظهرت الصحافة وكان للنقد البريء أثره الخالد في تقـدم أوروبا أدبـياً وسياسـياً وأخلاقياً.

غير أن لقمان- بعد ذلك كله - يعود فيتحفظ على تحرر المرأة في المجتمع الأوربي وعلى عملها في القضاء وفي الطب والصناعة، ويعود فيتمسك بحرية الفكر التي سار على سننها النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من بعده والتي قام على دعائمها عصر العباسيين.

إذا نحن تجاوزنا التناقض في مثل هذا الطرح فإن الإنصاف يقتضي القول إن مجرد طرح «حرية الفكر» في تلك الفترة في اليمن يعد تفكيراً تنويرياً متقدماً.

نكتفي بهذا القدر من العرض والمناقشة للقيم والأخلاق التنويرية التي دعا إليها لقمان لتشكل مقومات النهوض

رابعاً: تعليق نقدي

1- بالنظر إلى القيم الأخلاقية (أعلاه) -بحسب لقمان- نجده يعتبرها سبباً في تقدم الغرب ويرى أن غيابها أو تغييبها عند الشرقيين من العرب والمسلمين قد تسبب في تخلفهم وأن أيام مجد العرب قد ارتبطت بتوفرهم عليها، ثم ضاعت بضياعها.

يمكن لنا أن نصف هذا الطرح بأنه «نهضوي» أو «تنويري» وإن كنت أفضل كلمة «التنوير».

لكن يمكن القول أيضاً إن لقمان لم يتجاوز «النصح» إلى تقديم فكرة فلسفية للتقدم تحدد المنهج والمدخلات لمشروعه النهضوي، بل اكتفى ببحث عناوينه بالتجارب والمشاهدات والاستناد إلى مطالعاته في كتب الغربيين -على حد تعبيره.

2) يقول لقمان: لن أبحث في أي خلق يشترك فيه الأوروبي والشرقي بل سيكون همي هو ذلك السلوك الذي صار أظهر ما يكون في الأفرنج والذي بسببه نجحوا نجاحاً بهر العالم المتمدن (....) ومرماي هو أن يتحلى بهذه الأخلاق أبناء الشرق، فيبنون مدنيّتهم (مقدمة الكتاب).

وفي موضع آخر يفسر المؤلف المدينة بما هي التمدن البشري.

وأزعم أن لقمان كان يطمح إلى المجتمع المدني، كما نحلم به اليوم، وإن لم يحدد ملامحه، وإذا أنكر علي منكر هذا الزعم فمن حقه لأن هذا المجتمع الذي نحلم به مازال في طي الغيب.

(3) لعل أهمية سؤال التقدم الذي تبناه لقمان في بداية ثلاثينات القرن الماضي قد نبعت من أهمية فكرة التقدم نفسها كسؤال أثارته النهضة العربية من قبل ومازال يلح على الفكر المعاصر، على الرغم من تعدد الإجابات النظرية وتنوعها بتعدد وتنوع التيارات الفكرية، وبصرف النظر عن الصيغة الفكرية التي تقدم بها لقمان فإن السؤال بحد ذاته يعبر عن تفكير نهضوي، تنويري، إصلاحي سمه ما شئت قياساً على البعدين أدناه:

(أ) قياساً بالسائد الثقافي، الفكري في عدن في بداية الثلاثينات بتجلياته وتعبيراته ومواقفه الإصلاحية فيما عرف حينها بنوادي الإصلاح في كل من «عدن» و«الشيخ عثمان» و«التواهي»، لاسيما وأن معظم مادة الكتاب سبق وأن قالها المؤلف كمحاضرات لتثقيف أعضاء تلك النوادي (ينظر خاتمة الكتاب ص 79)، إذ أن طرح فـكـرة التقدم كبديل لفكرة الإصلاح السائدة يـعـد طـرحـاًً مـتـقـدمـاً لمـا يـفترضه التقدم من بدائل تتجاوز الإصلاح إلى التغيير.

(ب) كما يعتبر خطاب لقمان متقدماً قياساً حتى بالمواقف الإصلاحية المتأخرة كما تجلت في التجربة الأولى لمجلة «الحكمة اليمانية» 1938- 1941م بكتاباتها الإصلاحية ( الوريث) والتنويرية الإحيائية ( المطاع والعزب) .

وأتمنى أن تكون هذه الورقة المتواضعة قد ألمت بأطراف الموضوع الذي تصدت له، لأن الأمر لا يحتمل أكثر من ذلك.

والله ولي التوفيق

عدن 9 أبريل 2006م

ورقة مقدمة إلى ندوة محمد علي لقمان، رائد حركة التنوير

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى