نجيب محفوظ خلود العظماء

> علي ناصر محمد:

>
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
أتابع الجنازة الكبيرة على شاشة التلفاز، أشارك فيها من مقعدي كما تفعل الملايين في هذه اللحظة، تودع الراحل الكبير إلى مثواه الأخير بجنازة مهيبة تليق بالأديب العظيم، الذي وضع اسم العرب على لائحة حاملي جائزة نوبل، تقديراً لإبداعه الذي وصل إلى معظم شعوب الأرض واستحق بجدارة أن يحتل سدة الأدب لفترة طويلة ماضية وقادمة.

مشاهد الأسى والحزن تعلو الوجوه التي أعرف الكثير منها، مسؤولين وأدباء وكتاب وفنانين ومحبين، جمعهم حبهم وتقديرهم للعبقري الذي سال قلمه بحبر الواقع المصري.

ودعته مصر بجنازة تليق بـ «أم الدنيا» التي خرَّجت الأدباء والعظماء والزعماء والتي أنجبت طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم ومحمود السعدني وأمير الشعراء أحمد شوقي وأحمد رامي وأم كلثوم وغيرهم من الأدباء والزعماء العظام في مقدمتهم جمال عبدالناصر.

ونجيب محفوظ«الظاهرة» لم ولن يموت، بتأثيره الذي شمل أجيالاً كاملة ليس في مصر وحدها بل على امتداد الوطن العربي والعالم، وترك خلفه تراثاً عظيماً من أجمل الكتب والروايات والمسلسلات والأفلام، وتلامذة كباراً يخطو بعضهم مقتفياً أثره إلى عالم النجوم.

تلامذة أحبوه وأحبهم ورافقوه حتى آخر لحظة من حياته بوفاء شديد، ومنهم مجموعته المميزة التي اعتادت على لقاء كل ثلاثاء في «فرح بوت» اليخت الجميل الراسي على ضفة النيل، والذي تحول إلى منتدى فكري ضم أسماء كبيرة كيوسف القعيد وجمال الغيطاني وعبدالرحمن الأبنودي وغيرهم من الأدباء الكبار الذين تعرفت عبرهم إلى مبدع «أولاد حارتنا».

كان آخر لقاء لنا في الثلاثاء الأخير من أبريل الماضي 2006، وكان جمال الغيطاني يومها أذنه التي يسمعنا بها، إذ إن الراحل الكبير الذي تجاوز التسعين وبقي مصراً على الحضور والمشاركة بشجاعة في المحافل الأدبية كان محتاجاً لعون تلامذته للتواصل مع الآخرين خاصة بعد الحادث البشع الذي تعرض له وإصابته في عنقه ويده.

فاجأتني قدراته المتجددة التي قادت الحديث الغني الذي شمل الأدب والسياسة والتاريخ كما فاجأني اهتمامه ومتابعته للتطورات والأحداث الجارية، وأحببت كلامه عن ذكرياته في اليمن التي زارها مدفوعاً بحسه القومي لمؤازرة ثورة 26 سبتمبر، التي قدم لها الرئيس جمال عبدالناصر كل أشكال الدعم والتضحيات من أجل الدفاع عن الجمهورية، وحدثنا عن انطباعاته الجميلة عن مدينة تعز وجبل صبر وجمال طبيعتهما، والتي أبدع في وصفها السفير الدكتور عبدالولي الشميري حين قال:

أما تعز التي فسطاطها صبر

أبوالجبال زعيم في بواديها

سفوحه تكتسي الرمان زاهية

من الرياحين كتان مراعيها

يقبّل النجم هامات العروس كما

يقبّل القمر الزاهي أهاليها

وابتسم الأستاذ نجيب محفوظ وهو يصف جمال ملابس النساء الشعبية في تلك المنطقة والتي كانوا يسمونها «دمس» لشبهها بالنسيج الدمشقي «دامسكو» مما ذكرني بالقصيدة المغناة للشاعر عبدالله عبدالوهاب الفضول:

طاب البلس طاب واعذارى طاب هيا صبحونا بلس

محلا بنات الجبل حين يطوفين المدينة بالثياب الدمس

ولم يخل الحديث من حس الدعابة وسرعة البديهة، حينما علق أحد الحضور بمكر ممازحاً: «هل أعجبتك تعز المدينة أم نساؤها يا أستاذ؟»، فرد الرجل العجوز مبتسماً: «بل عيون نسائها»، وضحك الجميع.

وكان ممكناً أن يطول الحديث الشيق لولا أن «الرجل الساعة» كما يدعوه أصدقاؤه «شعر» بانتهاء الوقت بساعته البيولوجية الدقيقة، وأومأ إلى تلامذته الذين سارعوا إلى الوقوف ومرافقته إلى سيارته.

الجنازة انتهت ورقد نجيب محفوظ بسلام في مثواه الأخير.. لكنه من أكثر الأحياء حياة.. وباق بعد فناء العديد من الأجيال القادمة.. وسيبدأ منذ اللحظة حياة خلود العظماء.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى