صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم

> «الأيام» أسامة بن محمد الكلدي:

> الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد :فقد أظلنا شهر رمضان المبارك، ضيف العام الكريم، وأفضل الشهور لأفضل الأمم وخيرها عند الله. وقد استفاضت النصوص قرآناً وسنة في وجوب فرضيته، وبيان آدابه وأحكامه. ولما كان صيام رمضان ركناً من أركان الدين، وجب على كل مسلم معرفة هدي رسول الله صلى الله وسلم فيه، فإنه القدوة الحسنة للمسلمين إلى يوم القيامة، ولا يُعبد الله إلا من طريقه، وهذا أمر واجب، وفرض لازم، لا يسع أحداً الخروج عليه، واستحسان غيره من الطرق والمناهج، قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً} (النساء 65) وقبل أن نعرف صفة صومه صلى الله عليه وسلم نذكر تعريف الصيام لغة وشرعاً، فهو في اللغة الإمساك عن الشيء، وكل ممسك عن شيء فهو صائم، ومنه قوله تعالى عن مريم: {إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسياً} (مريم 26). وأما في اصطلاح الشرع فهو: إمساك مخصوص في زمن مخصوص، عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة. «فتح الباري (4/123)» وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الملك المعبود، مرتباً على نقاط متسلسلة:

1- النية: إذا ثبث دخول شهر رمضان، وجب على كل مسلم مكلف قادر مقيم سالم من الموانع أن ينوي صيامه من الليل لقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له» رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح. والنية هي القصد والعزم، وهي عمل قلبي لا تعلق للسان بها، وهذا يفيد خطـأ الجهر ورفع الصوت بها وإن فعله البعض، وسواء نوى الصيام في أول الليل أو وسطه أو آخره أجزاه كل ذلك، والليل يبدأ من بعد غروب الشمس وحتى قبل طلوع الفجر.

2- وقت الصيام: وهو الزمن المخصوص الذي يمسك فيه الصائم عن سائر المفطرات. قال تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} (البقرة 187) وجاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان هذه الآية، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} عمدت إلى عقال أسود وعقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار». فبين النبي صلى الله عليه وسلم معنى الآية وهو الاستمرار في الأكل والشرب حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، ولا يحصل هذا إلا بطلوع الفجر الصادق. وهذا يجر إلى الحديث عن بيان الفجر الصادق من الفجر الكاذب، وهو مما تناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيان الشافي، كيف لا وهما متعلق كثير من الأحكام، وعليهما ابتناؤها؟!

فالفجر الكاذب: هو البياض المستطيل الساطع المصعّد في السماء.

وأما الفجر الصادق: فهو الأحمر المستطير المعترض في الأفق وعلى رؤوس الجبال والشعاب.

قال صلى الله عليه وسلم فيهما: «الفجر فجران: فأما الأول فإنه لا يحرم الطعام، ولا يحل الصلاة، وأما الثاني فإنه يحرم الطعام، ويحل الصلاة» رواه خزيمة والحاكم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح. وأخرج الترمذي وأبو داود بسند صحيح عن طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا ولا يغرّنكم الساطع المصعّد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر». وهذه النصوص بمجموعها تدل على أن غاية الأكل والشرب طلوع الفجر الصادق، لا كما يظن البعض من إيجاب الإمساك عن الطعام والشراب وغيرها قبل الفجر الصادق بساعة أو أكثر، فهذا من البدع التي نبه عليها العلماء. والواقع يشهد أن الناس إذا خالفوا السنة وقعوا في التشديد والحرج، وذهبوا في ذلك مذاهب لا دليل عليها من كتاب أو سنة.. وما ذكر قبلُ فهو في ابتداء الصوم، وأما انتهاؤه فيكون بغروب الشمس وإقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» أخرجاه في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه.

3- السحور: روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه قال:«فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلَةُ السَّحَر".

وكان هديه صلى الله عليه وسلم فيه تأخيره إلى قبيل الفجر، فقد روى أنس رضي الله عنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة قلت - أي أنس لزيد - كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية. أخرجه البخاري ومسلم .

ورغّب النبي صلى الله عليه وسلم في السحور أيما ترغيب فقال لرجل من أصحابه وقد دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر، قال: «إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوها» رواه النسائي وأحمد، وسنده صحيح. وقال: «تسحروا فإن في السحور بركة» رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه. وقال فيما رواه ابن أبي شيبة وأحمد من طرق يشد بعضها بعضاً عن أبي سعد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «السحور أكلةُ بركةٍ، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين». وغيرها من الاحاديث.

4- الإفطار: مضى حديث عمر في الصحيحين في بيان وقت إفطار الصائم. وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه التعجيل، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر». وروى ابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال أمّتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم». وقال: «لا يزال الدين ظاهراً ما عجّل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون» رواه أبو داود وابن حبان عن أبي هريرة وسنده حسن.

وكان هديه صلى الله عليه وسلم فيه البداءة بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، وهذا من كمال شفقته وحرصه على أمته، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن رطبات فتمرات، فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء. رواه أحمد وغيره بسند صحيح.

وكان يقول عند إفطاره: «ذهب الظمأ وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» أخرجه أبو داود والبيهقي، وإسناده حسن.

وحث الصائم على الدعاء قبل فطره فقال: «إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد» رواه ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

وبالجملة فقد كان صيامه - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لما أمره ربه به، وتحقيقاً للغاية الكبرى من الصيام التي جاء ذكرها في قول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة 183) ومن هنا قال المبيّن عن الله مراده صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. وحث الصائمين على الابتعاد عن الأعمال التي تجرح الصوم، فقال: «ليس الصيام من الأكل والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابّك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم أني صائم» رواه ابن خزيمة والحاكم وسنده صحيح.

وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان حال غير حاله في غير رمضان، وذلك لأن رمضان موسم الخيرات، وشهر فيضان النعم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. والجود هنا أعم من أن يكون محصوراً في العطاء، بل هو شامل لجميع أنواع الجود والإحسان إلى الناس والله أعلم. قال في هداية الباري (1/19-20): «فرمضان موسم الخيرات لأن نعم الله سبحانه على عباده تربو فيه على غيره، وكان صلى الله عليه يؤثر متابعة سنة الله تبارك وتعالى في عباده»أهـ .

والمقصود معرفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام رمضان، وقد تبين لنا سماحة هديه ويسر شريعته في الصيام، وحسن معالجته للنفس البشرية بما ينفعها بدناً وروحاً، واختيار الأفضل لطبيعتها، والأكمل لها من غير إفراط أو تفريط. قال ابن القيم رحمه الله: «فأحد مقصودي الصيام الجُنّة والوقاية، وهي حمية عظيمة النفع، والمقصود الآخر: اجتماع القلب والهم على الله تعالى، وتوفير قوى النفس على محابه وطاعته» أ هـ زاد المعاد (4/335).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى