غربان عدن

> «الأيام» محمد أبي سمرا:

> مدينة كئيبة هي عدن. ما أن وصلت إليها من المطار صباحاً، وانطلقت بي سيارة الاجرة العتيقة المتهالكة كمعظم سيارات الأجرة في اليمن، حتى أفصحت لي روح المدينة، من النظرة الاولى والمشهد الاول في شوارعها، عن كآبتها المزمنة: البوم والغربان السود طيورها البحرية على شواطئها الجميلة شبه العذراء أحياناً في إطلالتها على كتل جبلية بركانية صغيرة، داكنة في عريها الدهري الذي لم تنبت فيه يوماً عشبة، ولن تنبت قط في قابل الايام. صخور محترقة انطفأت وتجمدت فجأة، منذ آلاف السنين، أو للتو أمام ناظريك، ليبعث مشهدها الشرس والموحش رهبة في نفسك، أنت ابن الطبيعة والمشاهد الاليفة، جبالاً ومدناً وسهولاً وشواطئ على المتوسط.

البوم والغربان السود طيور عدن البرية في كثير من شوارعها القريبة من الشاطئ، وعلى كثير من المباني الحكومية الاشتراكية الطراز المعماري والوظائفي، وعلى غيرها من المباني الأقدم عهداً، أيام كانت عدن محمية بريطانية.

النوعان من المباني متصدع بعضها، مهمل ومهجور ومتروك لنعيب البوم والغربان السود التي يبعث نعيبها في النفس شعوراً بالخواء والكآبة، على خلفية المشهد المهيب، لكن الخاوي والكئيب، للكتل الجبلية الصخرية الصغيرة السوداء والمحترقة للتو أو من دهور.

طوال الايام الثلاثة التي أمضيتها في عدن، لم يفارقني قط حدسي بأن الحياة في المدينة، كانت مزدهرة نابضة في زمن مضى وانقضى، وطوته نكبات غرقت المدينة بعدها في خمود يشبه الحداد الذي يصعب عليها كتمانه، فتركت البوم والغربان تنعب أو تنوح في شوارعها.

في زاوية من هذه الصورة السوداء أو السوداوية لعدن، عليَّ أن أضيف مشهداً تفصيلياً لتلك الفتاة الصغيرة التي غادرت للتو طفولتها، وظهرت فجأة لناظري في ناحية من شارع خالٍ في عصر نهار كئيب.

كانت الفتاة الطفلة ترتدي فستاناً مزركشاً يُظهر من الكتفين عري يديها، ولا يتطاول الى ما تحت ركبتيها الا قليلاً. فستان فضفاض جميل، لم أشاهد فتاة أو امرأة ترتدي فستاناً مثله في اليمن كله طوال رحلتي التي استغرقت عشرة أيام من مشاهد النساء اللواتي يلف السواد الفحمي أجسامهن كلها سوى حدقات عيونهن المتراقصة في محاجرها كبندول ساعة حائط قديمة. عيون كثقوب بيضاء في وسط المساحة الضئيلة المستطيلة الظاهرة من وجوههن، والتي وحدها تقول إن كائناً بشرياً يحتجب خلف السواد الفحمي الذي يصرّ على مشهد مأتمي للحياة الدنيا.

وحدها بنت الفستان المزركش التي ظهرت لي فجأة في عصر ذلك النهار العدني الكئيب في الشارع الكئيب، كسرت المشهد المأتمي للحياة في المدينة. حتى خلت الفتاة وليدة رؤيا خيالية، أو من بقايا زمن الاستعمار البريطاني.

فتاة قال لي مشهدها في عدن إن رهاب الاسلام الرسالي والجهادي من سفور النساء، هو صنيع رهابه من الاحتفال بالحياة، بجمال الحياة الدنيا التي يطبّق عليها شريعته المأتمية، ليحتفل بها احتفاله البربري القاتل، تماماً كما قتل هذا الاسلام الجهادي الحياة والضوء في عيني ميشال سورا ورماه جثة مجهولة في مكان مجهول في ثمانينات لبنان السوداء.

رهاب لا يطيق الحياة والضوء في عيون النساء ولا في عيون الرجال التي يحسب إسلام الجهاد والمقاومة أنه يملأها أحلاماً بالجنة السموية، فيما هو يحولها غرباناً تنشر الرعب والقتل والدمار في الارض، تماماً كما حوّل عيني ميشال سورا غرابين في سماء حلب، على ما عنونت زوجته السورية، ماري سورا، كتابها المأتمي عنه: غراب حلب.

عن «النهار» اللبنانية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى