في ذكرى رحيل الفنان محمد صالح حمدون: الحزن النبيل يطوف بأرجاء الوهط ومنتداها الثقافي

> «الأيام» د. هشام محسن السقاف:

> نهر الإبداع.. الفن الأصيل يحفر مجراه في كوامن الإنسان، يبقى ما بقيت صباحات تطل من وراء السدف، يشع دفئاً كشموس تفترش الأرض ضفائرها الفضية، فتأتلق أصداح الحياة في كل نفس وفي كل بيت وفي كل حقل. إنها آية الجمال الخلاقة حيث لا تنمحي من شاكلة الليل والنهار بغياب صاحبها، بل تظل كالنبراس تتجدد كالنبع الذي لا ينضب.

وهكذا تشاء الأقدار أن نحيى ذكرى غائب لا يغيب، الغائب الموجود في حياتنا، صاحب الصوت الرخيم وكروان الأغنية اللحجية محمد صالح حمدون، بعد ثلاث ثقال من سني الرحيل الحزين الذي صادف يوم 13 من أكتوبر الحالي، حيث التأمت في منتدى الوهط الثقافي (خبره جماعة وأصحاب) على حد قول القمندان، لتتدارس بل قل لتتأمل معنى غياب الفنان في حياتنا، أما الفن فلا يأفل ولا يغيب. وبالنسبة لصاحبنا الراحل الإنسان محمد صالح حمدون، فإن ناشئته التكوينية تماهت في ناشئة فنية من طراز فريد، حين أطل من مشهد عجيب بالتقاء محاسن الصوت، كوامنه ومزاياه الظاهرة والخفية، بعبقرية عبدالله هادي سبيت وهي تسد أفقاً إبداعياً فاصلا بين وفاة القمندان الكبير في العام 1943م وبعوث الموجة الثانية من نهضة الغناء الجديد في لحج في خمسينات القرن الماضي. وهي النهضة الموصولة بحبل سري مع النهوض العارم في عدن في نفس الفترة فنياً وفي نواح اجتماعية وسياسية وثقافية أخرى، وكأنها توأمة تشد أزرها عمقاً في التاريخ منذ أنشد الشاعر:

تقول عيسي وقد وافيت مبتهلاً

لحجا وبانت الأعلام من عدن

أمنتهى الأرض يا هذا تريد بنا

فقلتُ كلا ولكن منتهى اليمن

كانت جماليات الحمدون الإنسان والفنان تأتلق في فضاءات ليل الوهط الرمضاني في يوم ذكراه الثالثة، ويستطيع صاحب الذكر الطيب أن يجمع كل أولئك النفر الطيب ممن اكتظ بهم مقر المنتدى من مثقفين وأدباء وفنانين وشخصيات اجتماعية: الشيخ سيف بن محجمد فضل العزيبي رئيس مجلس قبيلة العزيبة، علي حسن القاضي رئيس فرع اتحاد الأدباء والكتاب اليميين في لحج، الفنان القدير عوض أحمد، محمد قائد صالح رئيس جمعية الفنانين في لحج، المخرج أحمد مليكان، ماجد حسن السقاف رئيس جمعية الثقافة والأدب بدارسعد، الأستاذ محمد عبدالجبار مستشار وزارة النقل ، محمد ناصر عويضان مدير عام الري بمحافظة لحج، الشاعر الغنائي عبداللطيف صالح أحمد وجمع آخر من محافظتي لحج وعدن.

وكان مفتتح تلك الءمسية أن تابع الحاضرون الفيلم الوثائقي عن حياة ابن حمدون، والذي أعدته أربع طالبات من قسم الإعلام بجامعة عدن هن (فطوم حسن محمد، لينا حسن عبدالله، نهاد يحيى عوض، سحر خليل أحمد) نلن به شهادة البكالوريوس في الإعلام وقد قامت «الأيام» مشكورة بنشر النص المصاحب للقطات الفيلم في عددها الصادر يوم الخميس 12 أكتوبر الحالي.

أما المساهمون بالحديث عن حياة وتجربة محمد صالح حمدون الفنية فهم: رفيق رحلته الفنية الشاعر الغنائي عبداللطيف صالح أحمد الذي قال عن الحمدون:«لقد سبب لنا رحيل الحمدون خسارة لاشك أنها كبيرة وفراغاً ربما لا يستيطع أن يغطيه أحد بعده» وأضاف:«إننا نتطلع إلى كل ما فيه الخير وبما يستحقه فقيدنا سواء أكان ذلك على مستوى أسرته أو بطبع مذكراته، فهذا سيكون بمثابة أحسن تكريم له». وجاء في مداخلة د. سعيد جيرع عميد كلية طب الأسنان بجامعة عدن:«كلنا نتحدث عن الزمن الجميل.. وكلنا نحلم لو أن عقارب الساعة تعود إلى الوراء لنعود لهذا الزمن الجميل، لنستقر ونتوقف عنده، ونستمع للصوت الجميل يشدونا البلبل بن حمدون بأغانيه الجميلة العاطفية والوطنية»، ثم اختتم جيرع كلمته: «لا تحزني يا وهط.. يا لحج.. يا يمن وفيك الطيب والكريم والحبيب ولازلت شامخة بذكرى الطيبين والمبدعين. رموز الأدب والشعر والفن والثقافة أمثال فقيدنا رحمه الله وفقيد اليمن عمر الجاوي، وتحرسك عين الله وأولياء الله الصالحين . وبهذه المناسبة أتقدم بمقترحي لإدارة الثقافة والسلطة المحلية بطبع كتاب عن حياة فنانا الكبير محمد صالح حمدون».

وتتالت الكلمات من الأديب على مهدي محلتي ، والشاعر ناصر مشبح، ومحمد أحمد عباد.

أما الشعر الذي كان حاضراً بعنفوان المحبة للفنان الراحل فقد بدأ يتدفق بتلقائية وصدق من أفواه أصحابه، ففي البدء كان الكلام المنظم من نصيب الشاعر علي منصور عمر بهذه الأبيات:

وينه الأمل وين الراحة في الدنيا

الآخرة تقولوا أبو عمر يرتاح

دنيا عجيبة الكذب بهايمشي

ونفـاق زايد وكثرة الوقاح

راحوا الأحبة منوه عاد في الدنيا

الحمد والشكر ويكثر السباح

راح ابن حمدون وبعده الدان والمغنى

راح السـلا وقـلـة الأفـراح

بستغفر الله وبصبر على الشده

بتعلم الصبر بتزول به الأتراح

ومن قصيدة الشاعر الشعبي أحمد محمد سعيد دهيس نقتطف هذه الابيات:

ياليلة الذكرى

يا جذوة الاشواق

ذي العين والأخرى

ذابت على الأحداق

من دمعها أمسي

على الوجن دفّاق

أنساه كيف أنسى

والفقد لها حرّاق

غنى وكم غنى

وأطرب العشاق

ما كان بالمغنى

ماجن على الاطلاق

واختتمها دهيس بقوله:

جدير بالتقدير

لدوره المصداق

فادعو له المولى

في ليلة الإعتاق

يحط من ذنبه

باللطف والإشفاق

وللنبي طه

ونوره البراق

صلاتنا ترقى

جمعاً إلى الخلاق

ومن قصيدتين طويلتين بالفصحى للشاعرين علي حامد السقاف ود. علي مهدي كرد، نختار المقاطع التالية:

(مرثية الوداع للسقاف)

نبأ هز أضلعي وجناني

وتلظى حرائقاً في كياني

حين أبلغت ماحوتها بحارٌ

أو سماءٌ عواصفَ الوجدان

سحبُ البين أمطرتني شقاءً

مستديماً يلوح من عنواني

فكأني ايوب قد كبلته

بـبلاها مصـائب الأزمانِ

***

ليس لي في الوداع باع ولكن أسعفتني بعدالرحيل المعاني

فإذا الروح والفواد سجاماً

بالـرثاء المـريـر ينسـكـبان

إيه يانفس لو تسحين دماً

فقـليـل على فـتى الفـتيان

فازفريها آهات حرى، لهيبا

وادفـقـيها كجـمرة البركان

وبحار الدموع هاجت جنوناً

فـكأنّ الـوجودَ في فيضان

ويح نفسي وددت أعطيك روحي

حينما أدرجوك في الأكفـان

ساعة الدفن أرضنا ثكلى

هبت حداداً، كفّت عن الدروان

والسماوات في صلاة وذكر

رحــمـاتٌ عـلـيـك بالقـرآنِ

أما ميمية د. علي مهدي كرد والموسومة بـ «الخلود الى السلام» فقد استضاءت بالشوقيات نفساً ومها نختار:

رثاؤك فوق ماطاق الكلام

وذكرك فوق ما تاق الأنامُ

وقد حاولت في التأبين جهدي

فإن قصّرتُ عنكط فلا ألامُ

كبُرْتَ عن الثناء وأنت حي

فـكـيف به وقد كبر المقام؟

وأعيانا بفقدك ما نعاني

وأعجز نطقا الحدث الجسامُ

كلانا في ذهول ما استفقنا

أنا عيٌّ ، وهـاتـيـك القـلامُ

أبَا وعد بلا وعد رحلتَ

وفاض على الطريق بك التمامُ

تركت الوهط والأهلين فيها

عــيـوناً لا تـرف ولا تـنـام

وأفئدةً ممزقة حيارى

وأرواحـاً يسـارقـها السقامُ

فأصمتت الليالي وهي شكلى

وأسـعـفها التبتّلُ والقـيامُ

وكانت الموسيقا خير ما يترجم روائع الحمدون الخالدة.

تلك التي تشكل جزءاً مهماً من ذائقتنا الفنية وحسنا الموسيقي، حيث غنى الفنان القدير عوض أحمد «ياباهي الجبين». ووضاح عبده كرد «ياربيب الحب» وصادق عبده خالد «هجرتني» وعلاء عبده كرد «القمر كم بايذكرني» وشوق فضل سلام «كم يقول الليل ياولهان توب» وكان مسك الختام وصلة حمدونية بصوت الفنان المتميز مهدي صالح حمدون.

وهكذا كان من أمر أصداء الوجد في رحيل حمدون، حسبنا أننا نمتلك ثراءه الفني الذي تركه لنا وديعة نسلو به حين نسلو، ويهزنا به الحنين إلى صاحبه الذي غاب ولم يغب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى